الحلقة الخامسة عشر من المسحراتي ..ليله رمضانيه في حضره الخليفه الفاطمي عبد الله بن بدر
كتب : أحمد عثمان عوض
الجمعة الثانية من شهر رمضان في القاهرة.. حرص الأمير الفاطمي عبدالله بن بدر على الاستيقاظ مبكرًا كي لا تفوته أحداث اليوم الكرنفالية المرتقبة، تأنّق قدر طاقته وخرج من داره الفسيحة الكائنة بحي الجمالية مُسرعًا.
أراد الترويح عن نفسه بشُرب قدرٍ أو اثنين من العنب المُقطر، لكنه تذكر أن الخمّارة مغلقة بفِعل قرارات الحجب العُليا التي تستعد لاستقبال الشهر الفضيل بمنع المُسكرات من رجب وحتى نهاية رمضان، ضمن إجراءات استعدادية أخرى تشمل مرور القاضي على المساجد الكبرى قبل حلوله بثلاثة أيام للنظر فيما ستحتاج إليه مساجد القاهرة الكبرى من فرش وتجديدات.
منذ أيام تلقى هدية الإمام الموعودة «صُرة الغُرة»، بعدما حملها له الخدم شأنه شأن بقية الأمراء وأرباب الرتب وكبار أهل الدولة؛ طبق من حلوى يحتوي صُرة من ذهب بمناسبة حلول أول أيام الشهر الفضيل، فرح بها عبد الله ووزّعها على نسائه وأطفاله غير عابئ بضياع قطعة ذهبية هنا أو هناك، فسيتلقى حتمًا صُرة أكبر منها قريبًا بأي مناسبة تجمعه بالإمام، خاصة وأنه بالتأكيد سيقود موكبًا كبيرًا اليوم.
الشوارع على أهبة الاستعداد لاستقبال الحاكم في أول جمعة برمضان، ولا تزال النواصي والبيوت والطرقات والحوانيت حافلة بالزينة والأعلام التي تم تعليقها احتفاءً بموكب الخليفة الذي جاب الشوارع من أسبوعين إعلانًا للناس ببدء شهر الصيام، وهو البديل الفاطمي عن احتفال رؤية الهلال عند أهل السنة، لأنهم كانوا لا يعترفون برؤية الهلال كوسيلة لتحديد بدايات الشهور العربية، وإنما اعتمدوا وحسب على الجداول الفلكية، والتي جعلت الشهور ستًا 29 يومًا وستًا 30 يومًا وكان شهر رمضان من الفئة الأخيرة لذا تحتم أن يكون شعبان دائمًا 29 يومًا، لذا اهتموا بشدة بعلم الفلك والرياضيات وبإقامة المراصد.
ورغم أن هذه الطريقة في استطلاع إرهاصات رمضان قد أثارت خلافًا بين الأهالي السُنة وحكامهم الشيعة، فإن ابن بدر يعلم أن علاقة تصالحية ما نشأت بين أسياده الفاطميين والشعب المصري فيما يخص الحرص على تدشين الرسوم (الحفلات الشعبية الرسمية) من وقتٍ لآخر، فالمصريون الذين استقبلوا المعز لدين الله الفاطمي في بداية حُكمه بعد أن هدّتهم المجاعات والفتن، كانوا بحاجة لأي مجلب للفرح، ولو أتى من بلاد المغرب، وهو ما لعب عليه الفاطميون بذكاء.
لم يسجل التاريخ على المصريين هذه الاحتفالات الصاخبة قبل قدوم آل المعز، وإنما فقط محاولات باهتة في العصرين الطولوني والإخشيدي، كما لم يُعرف عن الفاطميين أنفسهم أي أصول لهذه الطقوس إبان حكمهم إفريقية، علاوة على أنها بشكل عام ليس لها سابق وجود بالتقاليد العربية أو الإسلامية، وإنما كانت «بدعة فاطمية» تلقفها المصريون الكادحون ولم يتركوها حتى اليوم.
وقد تباينت آراء المؤرخين بهذا الصدد عن أسباب ذلك بين رغبة الحكام الجُدد في التقرب إلى الشعب، ومحاولتهم دسِّ عقيدتهم الإسماعيلية الجديدة خِلسة ضمن طقوس الفرح، أو أنها كانت مجرد انزلاق للتنافس الضاري الذي جمع مُلاّك القاهرة بأعدائهم الألداء العباسيين الذين فتنوا بغداد من كثرة أمارات الترف، وأن كلا الطرفين اقتبس كل هذه الأفاعيل من البلاط البيزنطي عبر استجلاب الرعايا الفُرس والاستعانة بخبراتهم «الكسراوية» قدر الإمكان، أو سبب آخر وهو أن الفاطميين اعتبروا أن دخولهم القاهرة حوّلها إلى عاصمة خلافة أخرى شأنها شأن بغداد وقرطبة، وليست مجرد ولاية تابعة، وعلى ذلك فهي تستحق أن يجري عليها ما يجري عليهما وأكثر.
جدًّ الأمير الفاطمي السير صوب الجامع الأنور (الحاكم) الذي يستضيف دومًا صلاة الجمعة الثانية للخليفة، عقب عدم ظهوره طوال الأسبوع فيما يُسميه الشعب «جمعة الراحة»، على أن تكون الجمعة التي تليها في الجامع الأزهر، وما أن بلغ المكان حتى تأكد أن الإمام لن يتخلف عن «البروتوكول» اليوم، رغم أنه وجد أبواب المسجد مغلقة ومضروبًا عليها سلسلة من حديد، فإن أعمال التنظيف التي تجري بصبر ودأب بالمنطقة، ورائحة البخور الكثيفة التي تخرج من نوافذ «الأنور» أكدت له أن الخليفة في الطريق.
لم تمر دقائق إلا وبشّرت الآلات الموسيقية من طبل وبوق التي تسبق موكب الحاكم دومًا بأنه بات على الأبواب، انتشر الحرس على الجانبين لإفراغ الطريق من المارة الذين احتشدوا لمطالعة الإمام وأبهة موكبه، ومن ضمنهم عبدالله الذي وقف فوق بَسطة عالية واشرأب بعنقه ليحصل على زاوية رؤية ممتازة للطريق كفلت له متابعة الموكب فور دخوله.
في المقدمة سار قرّاء الحضرة يتلون آيات القرآن والأذكار، ووراءهم حفنة من جنود يحملون رماحًا تنتهي أطرافها بأهِلة من ذهب، ومن خلفهم صاحب بيت المال مشرفًا على العمال وهم يحملون الفراش الذي سيستخدمه الخليفة اليوم ملفوفًا في العراضي، ومن خلفهم يظهر الخليفة مرتديًا ثيابًا حريرية بيضاء غير مذهبة توقيرًا للصلاة وطيلسان مقور، وبصحبته وزيره، وحولهم مجموعة أخرى من الجنود يحملون أكياسًا تحوي أموال الصدقة يوزعونها بلا حساب على الناس خلال السير البطيء للموكب، حتى وصل الجامع الذي فتح أبوابه فورًا لاستقبال زائره الثمين وحاشيته، ومن خلفهم بدأ الناس يتدفقون تباعًا على المكان حتى امتلأت ساحته تمامًا وغصَّ بالخلق.
أسرع قاضي القضاة إلى منصة الخطابة وبخّرها بمدخنة من خيزران، قبل أن يهبط مفسحًا المجال للخليفة الفاطمي الذي اعتلاها فورًا، وبدأ يقرأ الخطبة على الرعية من مسطور (مكتوب) حضّره له ديوان الإنشاء، بدأها بالترحم على أبيه وجده (محمد وعلي)، وهذا النسب النبوي هو الأساس القوي الذي قامت عليه دعائم الدولة، لذا كان أول وجهة استعملها العباسيون للطعن فيه تمهيدًا لعدم الاعتراف بشرعية مطالبة الفاطميين بالحكم، ولذا لم يكن الفاطميون يفضلون استعمال مصطلح «الخلافة» وإنما يؤثرون استعمال لفظة الإمامة، والإمام الأول عندهم هو علي بن أبي طالب، كما كان أول دعاء دُعي به المعز لدين الله في أول جمعة رسمية أقيمت له سنة 358هـ عقب دخوله البلاد، كان نصه:
اللهم صلِّ على عبدك ووليك ثمرة النبوة، وسليل العزة الهادية، عبدالله الإمام معد أبي تميم المعز لدين الله، أمير المؤمنين، كما صليت على آبائه الطاهرين، وأسلافه الأئمة الراشدين.
وبعد أن أنهى الحاكم خطبته صلّى إمامًا بالناس ومن خلفه وزراؤه وأمراؤه وقضاته وجنوده، وعقب الانتهاء من الصلاة لم يعد الأمير عبدالله إلى منزله، لأنه يعلم أن برنامجه اليوم ما زال ممتلئًا، فقد أمضى ساعات بالتجول في الطرقات والاستمتاع بعروض دُمى خيال الظل في الشارع، وهو مسرح ظِلِّي يتمثل الحكاوي الواعظة والتاريخية بأشكال منعكسة على ستارة بيضاء مشودة أمام ضوء ثبت خلف الستار.
اقترب أذان المغرب وبدأت أسطمة (موائد) رمضان في الافتراش بالجوامع الكبرى والطرقات تستعد لاستقبال الناس، لم تعنه ولا واحدة منها رغم كثرة مأكولاتها وبذخ إنفاق الدولة عليها الذي وصلت قيمته في عهد الآمر بأحكام الله عام 516هـ إلى 16436 دينارًا، لأنه كان يقصد واحدة بعينها؛ سِماط قصر الذهب.
الثراء المعماري في قصر الذهب كان خرافيًا، فعلى الرغم من أن عبدالله دخله مرارًا فإنه كلما شاهده حسب نفسه في حلم، عبر فناء فسيح تحيط به أروقة مقامة على أعمدة من الرخام، وسقوفها تغشاها صفائح من الذهب مزينة بالألوان، وأرضها مغطاة بالفسيفساء ومن حولهما كانت نافورات من المرمر تبخ ماءها لأعلى، لتصيب برذاذها كل المارين، حتى بلغ المفرق الذي يقود إلى القاعتين الملكيتين: «الذهب» وهي قاعة العرش، و«الفضة» وهي قاعة المقابلات الرسمية.
اختار الإمام الأولى، وما أن دخلها حتى أُخذ بجدرانها المكسوة بالذهب، والعرش العملاق الكائن بنهايتها مطعمًا بالأحجار الكريمة ومستقر فوق منصة ذهبية، ومن حوله أجمات من نخيل مصنوعة من ذهب مثقل بفواكه وأزهار منحوتة من الأحجار الكريمة. فيما انتشر الخدم كالنحل بملابسهم المزركشة الفاخرة يعدّون «السِماط» كي يكون لائقًا لاستقبال القادمين.
حين أتت لحظة الإفطار عجّت القاعة بالناس يتصدرهم قاضي القضاة وبعض الأكابر، ومن حولهم كان الفرّاشون يتأكدون من تمام خدمة الناس، يزودونهم بالطعام إن قل وبالماء المبخر في كيزان الخزف.
ازدانت المائدة بأجود الأطعمة التي اشتهرت في ذلك الوقت كـ«خبز السميد» (أرقى أنواع الخبز)، والأرز باللوز والكشك والخراف الصغيرة المشوية والبامية والقلقاس والملكوية (الملوخية)، و«الهريسة» وهي ليست الحلوى المعروفة وإنما نوع طعام يُمزج فيه اللحم الضأن والبقري والدجاج معًا بالإضافة إلى القمح والبصل وبعض التوابل، و«النقانق» (أمعاء حيوانات محشوة باللحوم)، و«السنبوسك» وهو طعام يصنع من فخذ الضأن، و«البزماورد» صدور دجاج تقلى بالزبد والبيض، علاوة على المخللات من الخيار والبصل والزيتون، بالإضافة إلى حلوى «النيدة» الشهيرة التي كانت تصنع من القمح، بالإضافة لأصناف لا نزال نعرفها حتى اليوم مثل الزلابية والقطائف، كما كانت تصنع قصور وتماثيل ذات أشكال مختلفة من سكر تزن الواحدة منها 17 قنطارًا.
جميع هذه الحلوى كانت تُعد بشكل نظامي في دار الفطرة التي تأسست بعهد الخليفة العزيز بالله، وعنيت بصناعة الحلوى في الاحتفاليات الرسمية وتراوحت مخصصاتها الرسمية بين 7 آلاف و10 آلاف دينار لشراء السكر والعسل والطيب والدقيق وكافة مستلزمات الصناعة.
وبعد انتهاء سماط الإفطار، بدأ احتفال ديني كبير حضره الخليفة بنفسه، وتبارى القراء في تلاوة القرآن أمامه، وتبعهم المؤذنون بالتكبير وذكر فضائل السحور ثم ختموا نشاطهم بالدعاء للخليفة، وأتى بعدهم دور الوعاظ ليذكروا فضائل شهر رمضان وأسهبوا في مدح الخليفة وكرمه، ثم حان دور الصوفية فقاموا بالمديح والإنشاد وذكر مناقب الرسول وأهل البيت.
استمر الاحتفال الديني إلى ما بعد منتصف الليل، ووزعت أثناءه على الحاضرين أطباقًا كبيرة بها أصناف الحلوى والقطائف وأكواب الماء المعطر، ثم بدأت مائدة السحور التي يحضرها الخليفة بنفسه، وفي نهايتها يتم توزيع ما بقي من الطعام الخاص بالخليفة على الحاضرين، الذي يحملونه لأولادهم على سبيل التبرك.
كتب : أحمد عثمان عوض
الجمعة الثانية من شهر رمضان في القاهرة.. حرص الأمير الفاطمي عبدالله بن بدر على الاستيقاظ مبكرًا كي لا تفوته أحداث اليوم الكرنفالية المرتقبة، تأنّق قدر طاقته وخرج من داره الفسيحة الكائنة بحي الجمالية مُسرعًا.
أراد الترويح عن نفسه بشُرب قدرٍ أو اثنين من العنب المُقطر، لكنه تذكر أن الخمّارة مغلقة بفِعل قرارات الحجب العُليا التي تستعد لاستقبال الشهر الفضيل بمنع المُسكرات من رجب وحتى نهاية رمضان، ضمن إجراءات استعدادية أخرى تشمل مرور القاضي على المساجد الكبرى قبل حلوله بثلاثة أيام للنظر فيما ستحتاج إليه مساجد القاهرة الكبرى من فرش وتجديدات.
منذ أيام تلقى هدية الإمام الموعودة «صُرة الغُرة»، بعدما حملها له الخدم شأنه شأن بقية الأمراء وأرباب الرتب وكبار أهل الدولة؛ طبق من حلوى يحتوي صُرة من ذهب بمناسبة حلول أول أيام الشهر الفضيل، فرح بها عبد الله ووزّعها على نسائه وأطفاله غير عابئ بضياع قطعة ذهبية هنا أو هناك، فسيتلقى حتمًا صُرة أكبر منها قريبًا بأي مناسبة تجمعه بالإمام، خاصة وأنه بالتأكيد سيقود موكبًا كبيرًا اليوم.
الشوارع على أهبة الاستعداد لاستقبال الحاكم في أول جمعة برمضان، ولا تزال النواصي والبيوت والطرقات والحوانيت حافلة بالزينة والأعلام التي تم تعليقها احتفاءً بموكب الخليفة الذي جاب الشوارع من أسبوعين إعلانًا للناس ببدء شهر الصيام، وهو البديل الفاطمي عن احتفال رؤية الهلال عند أهل السنة، لأنهم كانوا لا يعترفون برؤية الهلال كوسيلة لتحديد بدايات الشهور العربية، وإنما اعتمدوا وحسب على الجداول الفلكية، والتي جعلت الشهور ستًا 29 يومًا وستًا 30 يومًا وكان شهر رمضان من الفئة الأخيرة لذا تحتم أن يكون شعبان دائمًا 29 يومًا، لذا اهتموا بشدة بعلم الفلك والرياضيات وبإقامة المراصد.
ورغم أن هذه الطريقة في استطلاع إرهاصات رمضان قد أثارت خلافًا بين الأهالي السُنة وحكامهم الشيعة، فإن ابن بدر يعلم أن علاقة تصالحية ما نشأت بين أسياده الفاطميين والشعب المصري فيما يخص الحرص على تدشين الرسوم (الحفلات الشعبية الرسمية) من وقتٍ لآخر، فالمصريون الذين استقبلوا المعز لدين الله الفاطمي في بداية حُكمه بعد أن هدّتهم المجاعات والفتن، كانوا بحاجة لأي مجلب للفرح، ولو أتى من بلاد المغرب، وهو ما لعب عليه الفاطميون بذكاء.
لم يسجل التاريخ على المصريين هذه الاحتفالات الصاخبة قبل قدوم آل المعز، وإنما فقط محاولات باهتة في العصرين الطولوني والإخشيدي، كما لم يُعرف عن الفاطميين أنفسهم أي أصول لهذه الطقوس إبان حكمهم إفريقية، علاوة على أنها بشكل عام ليس لها سابق وجود بالتقاليد العربية أو الإسلامية، وإنما كانت «بدعة فاطمية» تلقفها المصريون الكادحون ولم يتركوها حتى اليوم.
وقد تباينت آراء المؤرخين بهذا الصدد عن أسباب ذلك بين رغبة الحكام الجُدد في التقرب إلى الشعب، ومحاولتهم دسِّ عقيدتهم الإسماعيلية الجديدة خِلسة ضمن طقوس الفرح، أو أنها كانت مجرد انزلاق للتنافس الضاري الذي جمع مُلاّك القاهرة بأعدائهم الألداء العباسيين الذين فتنوا بغداد من كثرة أمارات الترف، وأن كلا الطرفين اقتبس كل هذه الأفاعيل من البلاط البيزنطي عبر استجلاب الرعايا الفُرس والاستعانة بخبراتهم «الكسراوية» قدر الإمكان، أو سبب آخر وهو أن الفاطميين اعتبروا أن دخولهم القاهرة حوّلها إلى عاصمة خلافة أخرى شأنها شأن بغداد وقرطبة، وليست مجرد ولاية تابعة، وعلى ذلك فهي تستحق أن يجري عليها ما يجري عليهما وأكثر.
جدًّ الأمير الفاطمي السير صوب الجامع الأنور (الحاكم) الذي يستضيف دومًا صلاة الجمعة الثانية للخليفة، عقب عدم ظهوره طوال الأسبوع فيما يُسميه الشعب «جمعة الراحة»، على أن تكون الجمعة التي تليها في الجامع الأزهر، وما أن بلغ المكان حتى تأكد أن الإمام لن يتخلف عن «البروتوكول» اليوم، رغم أنه وجد أبواب المسجد مغلقة ومضروبًا عليها سلسلة من حديد، فإن أعمال التنظيف التي تجري بصبر ودأب بالمنطقة، ورائحة البخور الكثيفة التي تخرج من نوافذ «الأنور» أكدت له أن الخليفة في الطريق.
لم تمر دقائق إلا وبشّرت الآلات الموسيقية من طبل وبوق التي تسبق موكب الحاكم دومًا بأنه بات على الأبواب، انتشر الحرس على الجانبين لإفراغ الطريق من المارة الذين احتشدوا لمطالعة الإمام وأبهة موكبه، ومن ضمنهم عبدالله الذي وقف فوق بَسطة عالية واشرأب بعنقه ليحصل على زاوية رؤية ممتازة للطريق كفلت له متابعة الموكب فور دخوله.
في المقدمة سار قرّاء الحضرة يتلون آيات القرآن والأذكار، ووراءهم حفنة من جنود يحملون رماحًا تنتهي أطرافها بأهِلة من ذهب، ومن خلفهم صاحب بيت المال مشرفًا على العمال وهم يحملون الفراش الذي سيستخدمه الخليفة اليوم ملفوفًا في العراضي، ومن خلفهم يظهر الخليفة مرتديًا ثيابًا حريرية بيضاء غير مذهبة توقيرًا للصلاة وطيلسان مقور، وبصحبته وزيره، وحولهم مجموعة أخرى من الجنود يحملون أكياسًا تحوي أموال الصدقة يوزعونها بلا حساب على الناس خلال السير البطيء للموكب، حتى وصل الجامع الذي فتح أبوابه فورًا لاستقبال زائره الثمين وحاشيته، ومن خلفهم بدأ الناس يتدفقون تباعًا على المكان حتى امتلأت ساحته تمامًا وغصَّ بالخلق.
أسرع قاضي القضاة إلى منصة الخطابة وبخّرها بمدخنة من خيزران، قبل أن يهبط مفسحًا المجال للخليفة الفاطمي الذي اعتلاها فورًا، وبدأ يقرأ الخطبة على الرعية من مسطور (مكتوب) حضّره له ديوان الإنشاء، بدأها بالترحم على أبيه وجده (محمد وعلي)، وهذا النسب النبوي هو الأساس القوي الذي قامت عليه دعائم الدولة، لذا كان أول وجهة استعملها العباسيون للطعن فيه تمهيدًا لعدم الاعتراف بشرعية مطالبة الفاطميين بالحكم، ولذا لم يكن الفاطميون يفضلون استعمال مصطلح «الخلافة» وإنما يؤثرون استعمال لفظة الإمامة، والإمام الأول عندهم هو علي بن أبي طالب، كما كان أول دعاء دُعي به المعز لدين الله في أول جمعة رسمية أقيمت له سنة 358هـ عقب دخوله البلاد، كان نصه:
اللهم صلِّ على عبدك ووليك ثمرة النبوة، وسليل العزة الهادية، عبدالله الإمام معد أبي تميم المعز لدين الله، أمير المؤمنين، كما صليت على آبائه الطاهرين، وأسلافه الأئمة الراشدين.
وبعد أن أنهى الحاكم خطبته صلّى إمامًا بالناس ومن خلفه وزراؤه وأمراؤه وقضاته وجنوده، وعقب الانتهاء من الصلاة لم يعد الأمير عبدالله إلى منزله، لأنه يعلم أن برنامجه اليوم ما زال ممتلئًا، فقد أمضى ساعات بالتجول في الطرقات والاستمتاع بعروض دُمى خيال الظل في الشارع، وهو مسرح ظِلِّي يتمثل الحكاوي الواعظة والتاريخية بأشكال منعكسة على ستارة بيضاء مشودة أمام ضوء ثبت خلف الستار.
اقترب أذان المغرب وبدأت أسطمة (موائد) رمضان في الافتراش بالجوامع الكبرى والطرقات تستعد لاستقبال الناس، لم تعنه ولا واحدة منها رغم كثرة مأكولاتها وبذخ إنفاق الدولة عليها الذي وصلت قيمته في عهد الآمر بأحكام الله عام 516هـ إلى 16436 دينارًا، لأنه كان يقصد واحدة بعينها؛ سِماط قصر الذهب.
الثراء المعماري في قصر الذهب كان خرافيًا، فعلى الرغم من أن عبدالله دخله مرارًا فإنه كلما شاهده حسب نفسه في حلم، عبر فناء فسيح تحيط به أروقة مقامة على أعمدة من الرخام، وسقوفها تغشاها صفائح من الذهب مزينة بالألوان، وأرضها مغطاة بالفسيفساء ومن حولهما كانت نافورات من المرمر تبخ ماءها لأعلى، لتصيب برذاذها كل المارين، حتى بلغ المفرق الذي يقود إلى القاعتين الملكيتين: «الذهب» وهي قاعة العرش، و«الفضة» وهي قاعة المقابلات الرسمية.
اختار الإمام الأولى، وما أن دخلها حتى أُخذ بجدرانها المكسوة بالذهب، والعرش العملاق الكائن بنهايتها مطعمًا بالأحجار الكريمة ومستقر فوق منصة ذهبية، ومن حوله أجمات من نخيل مصنوعة من ذهب مثقل بفواكه وأزهار منحوتة من الأحجار الكريمة. فيما انتشر الخدم كالنحل بملابسهم المزركشة الفاخرة يعدّون «السِماط» كي يكون لائقًا لاستقبال القادمين.
حين أتت لحظة الإفطار عجّت القاعة بالناس يتصدرهم قاضي القضاة وبعض الأكابر، ومن حولهم كان الفرّاشون يتأكدون من تمام خدمة الناس، يزودونهم بالطعام إن قل وبالماء المبخر في كيزان الخزف.
ازدانت المائدة بأجود الأطعمة التي اشتهرت في ذلك الوقت كـ«خبز السميد» (أرقى أنواع الخبز)، والأرز باللوز والكشك والخراف الصغيرة المشوية والبامية والقلقاس والملكوية (الملوخية)، و«الهريسة» وهي ليست الحلوى المعروفة وإنما نوع طعام يُمزج فيه اللحم الضأن والبقري والدجاج معًا بالإضافة إلى القمح والبصل وبعض التوابل، و«النقانق» (أمعاء حيوانات محشوة باللحوم)، و«السنبوسك» وهو طعام يصنع من فخذ الضأن، و«البزماورد» صدور دجاج تقلى بالزبد والبيض، علاوة على المخللات من الخيار والبصل والزيتون، بالإضافة إلى حلوى «النيدة» الشهيرة التي كانت تصنع من القمح، بالإضافة لأصناف لا نزال نعرفها حتى اليوم مثل الزلابية والقطائف، كما كانت تصنع قصور وتماثيل ذات أشكال مختلفة من سكر تزن الواحدة منها 17 قنطارًا.
جميع هذه الحلوى كانت تُعد بشكل نظامي في دار الفطرة التي تأسست بعهد الخليفة العزيز بالله، وعنيت بصناعة الحلوى في الاحتفاليات الرسمية وتراوحت مخصصاتها الرسمية بين 7 آلاف و10 آلاف دينار لشراء السكر والعسل والطيب والدقيق وكافة مستلزمات الصناعة.
وبعد انتهاء سماط الإفطار، بدأ احتفال ديني كبير حضره الخليفة بنفسه، وتبارى القراء في تلاوة القرآن أمامه، وتبعهم المؤذنون بالتكبير وذكر فضائل السحور ثم ختموا نشاطهم بالدعاء للخليفة، وأتى بعدهم دور الوعاظ ليذكروا فضائل شهر رمضان وأسهبوا في مدح الخليفة وكرمه، ثم حان دور الصوفية فقاموا بالمديح والإنشاد وذكر مناقب الرسول وأهل البيت.
استمر الاحتفال الديني إلى ما بعد منتصف الليل، ووزعت أثناءه على الحاضرين أطباقًا كبيرة بها أصناف الحلوى والقطائف وأكواب الماء المعطر، ثم بدأت مائدة السحور التي يحضرها الخليفة بنفسه، وفي نهايتها يتم توزيع ما بقي من الطعام الخاص بالخليفة على الحاضرين، الذي يحملونه لأولادهم على سبيل التبرك.