
ليرة سورية جديدة بدون أصفار: هل تنجح خطة دمشق لإنقاذ الاقتصاد المتهاوي؟
الليرة السورية، التي كانت يومًا رمزًا للاستقرار الاقتصادي، لن تعود بشكلها وقيمتها السابقة. فبعد سنوات من الركود والانهيار المريع، وضع مصرف سوريا المركزي خطة لإصلاح العملة تهدف إلى إعادة هيكلتها، في خطوة وصفت بالضرورية والمصيرية. تقوم الخطة على إصدار عملة جديدة مع حذف صفرين من قيمتها، في محاولة لتسهيل المعاملات اليومية واستعادة جزء من الثقة المفقودة في النظام المصرفي. لكن هل يكفي هذا الإجراء الشكلي لمعالجة الأسباب الجذرية للأزمة الاقتصادية العميقة التي تعصف بالبلاد؟ يمكنك متابعة آخر الأخبار الاقتصادية لمعرفة كل جديد.
تاريخ الانهيار: من 50 إلى 40 ألف ليرة للدولار
لم يكن تدهور الليرة السورية وليد اللحظة. فقبل عام 2011، حافظ سعر الصرف على استقرار نسبي عند حوالي 50 ليرة للدولار. لكن مع اندلاع الصراع، بدأت العملة رحلة انهيار مروعة، مدفوعة بالعقوبات الدولية، وتدمير البنية التحتية، وانخفاض الاحتياطيات النقدية. بحلول نهاية 2013، وصل سعر الصرف إلى 300 ليرة، ثم قفز إلى 1000 ليرة مع نهاية 2019.
العام الماضي، شهدت الليرة أسوأ مراحلها، حيث وصل سعر الدولار في السوق الموازية إلى نحو 40 ألف ليرة، قبل أن تشهد تحسنًا طفيفًا بعد سقوط نظام الأسد لتستقر حاليًا عند حوالي 11 ألف ليرة. هذا التدهور أدى إلى تآكل القوة الشرائية للمواطنين وجعل التعامل بالأوراق النقدية ذات الفئات الصغيرة أمرًا غير عملي على الإطلاق.
خطة الإنقاذ: ليرة جديدة بالتعاون مع روسيا
تتضمن الخطة الجديدة التي كشف عنها المصرف المركزي السوري، والتي من المقرر أن يبدأ طرحها الرسمي في الثامن من ديسمبر المقبل، إصدار أوراق نقدية جديدة بعد حذف صفرين من قيمتها. هذا يعني أن ورقة نقد من فئة 5000 ليرة قديمة ستعادل 50 ليرة في العملة الجديدة. الهدف الرئيسي هو تبسيط العمليات المحاسبية وتسهيل التعاملات اليومية التي أصبحت تتطلب حمل كميات هائلة من النقود.
ولتنفيذ هذه الخطوة، اتفقت دمشق مع شركة “جوزناك” الروسية المتخصصة لطباعة النقد الجديد. وستسبق عملية الطرح حملة إعلامية واسعة لتعريف المواطنين بالتغييرات. كما حدد المصرف فترة انتقالية مدتها عام كامل، حتى ديسمبر 2026، يُسمح خلالها بتداول العملتين القديمة والجديدة معًا لضمان انتقال سلس ومنع حدوث أي إرباك في السوق.
البنوك السورية تستعد لتطبيق خطة العملة الجديدة.
تحديات التنفيذ: بين لوجستيات الاستبدال وفجوة الثقة
على الرغم من أن خطة حذف الأصفار تبدو واضحة على الورق، إلا أن تنفيذها على الأرض يواجه تحديات لوجستية هائلة. فعملية استبدال تريليونات الليرات المتداولة في السوق تتطلب بنية تحتية مصرفية قوية قادرة على استيعاب ملايين المواطنين خلال فترة زمنية محددة. التحدي الأكبر لا يكمن فقط في جاهزية ماكينات عد النقود والأنظمة الآلية، بل في بناء جسور الثقة مع المواطنين الذين اعتادوا على اكتناز الأموال في منازلهم. إن إقناع السوريين بإيداع مدخراتهم، التي قد تكون جمعوها من السوق السوداء أو احتفظوا بها بعيدًا عن أعين السلطات لسنوات، في البنوك الرسمية يتطلب أكثر من مجرد إصدار عملة جديدة؛ إنه يتطلب ضمانات حقيقية بأن هذه الأموال لن تكون عرضة للمصادرة أو التجميد، وهو ما يمثل الاختبار الحقيقي الأول لجدية الإصلاحات الاقتصادية.
الهدف الخفي: إعادة 40 تريليون ليرة إلى المصارف
بحسب الخبيرة الاقتصادية هيام علي، فإن السبب الجوهري وراء هذا الإصلاح النقدي هو وجود كتلة نقدية ضخمة تقدر بنحو 40 تريليون ليرة سورية خارج النظام المصرفي الرسمي. هذه الأموال مكتنزة لدى المواطنين والتجار الذين فقدوا الثقة في البنوك على مدى سنوات الحرب، ولجأوا إلى أشكال ادخارية بديلة مثل الذهب والعقارات والسيارات، أو حتى الاحتفاظ بالكاش في منازلهم.
يهدف المصرف المركزي من خلال إجبار الجميع على استبدال عملاتهم القديمة إلى إعادة هذه السيولة الهائلة إلى القنوات الرسمية. هذا سيمنح السلطات النقدية قدرة أكبر على إدارة الكتلة النقدية والتحكم في السيولة، وهو أمر ضروري لأي محاولة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي في المستقبل.
هل حذف الأصفار كافٍ؟ تحديات الإصلاح الاقتصادي
تؤكد الخبيرة هيام علي أن خطوة حذف الأصفار، رغم أهميتها الإجرائية، لن يكون لها تأثير حقيقي على الأسعار أو القوة الشرائية للمواطن بمفردها، لأن الاقتصاد السوري أصبح “مدولرًا” بشكل شبه كامل، حيث يتم تسعير معظم السلع والخدمات بناءً على قيمة الدولار. وبالتالي، فإن نجاح هذه الخطوة مرهون بتنفيذ حزمة متكاملة من الإصلاحات الاقتصادية الشاملة.
وتشمل هذه الإصلاحات ضرورة التركيز على إعادة بناء القطاعات الإنتاجية كالزراعة والصناعة، وتطوير السياحة، وتشجيع الاستثمار لتوفير فرص عمل. والأهم من ذلك، هو العمل على استعادة ثقة المواطن بالجهاز المصرفي عبر إعادة هيكلة المصارف وتفعيل أنظمة الدفع الإلكتروني. بدون هذه الإجراءات، سيبقى إصلاح العملة مجرد خطوة شكلية غير قادرة على تحقيق التعافي الاقتصادي المنشود.