دنيا وديندنيا و دينسلايدر

قصة ذي القرنين في القرآن: من هو وما هي عظة التمكين؟

قصة ذي القرنين في القرآن الكريم: من هو؟ وما هي عظة التمكين؟

تعتبر **قصة ذي القرنين** إحدى أكثر القصص القرآنية إلهاماً وغموضاً، والتي أثارت جدلاً واسعاً بين العلماء والمفسرين حول هويته الحقيقية. هل هو الإسكندر المقدوني، أم قورش، أم أحد ملوك اليمن؟ يؤكد العلماء أن تحديد هويته ليس هو الأهم، بل العبرة والدروس المستفادة من هذه الشخصية المباركة التي آتاها الله التمكين في الأرض. فما هي تفاصيل هذه القصة العظيمة، وما هي دلالات **التمكين في الأرض** وكيف طبقها ذو القرنين؟

من هو ذو القرنين؟ خلافات حول الهوية والعبرة من القصص القرآنية

يُسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، ويأتيه الرد القرآني في سورة الكهف، لا ليحدد هويته بشكل قاطع، بل ليروي عظيم ما فعله وما آتاه الله من قدرة وعلم. فالاختلاف في تشخيص **شخصية ذي القرنين**، إن كان الإسكندر المقدوني كما ذهب البعض، أو قورش الفارسي الصالح، أو حتى ذي يزن الحميري من ملوك اليمن، لا يقلل من قيمة القصة. فالعبرة ليست في اسمه أو نسبه، بل في وصفه كـ “مُمَكّن في الأرض” وكيف استخدم هذا التمكين في سبيل الله. هذه المنهجية القرآنية تدفعنا للتفكير في جوهر القصة وعظاتها بدلاً من الوقوف عند التفاصيل التاريخية التي قد لا تكون ذات أهمية بالغة في سياق العبرة المستهدفة. يمكنك الاستزادة حول أهمية القصص في القرآن الكريم من خلال مقالنا عن أهمية القصص القرآنية في بناء الشخصية.

لقد ضرب لنا القرآن أمثلة واضحة للتمكين، ويقدم لنا **ذِكْرَى** من قصته. هذا التوثيق الإلهي لعمل رجل صالح، بغض النظر عن هويته، يمنح عمله خلوداً وشرفاً لم يطله ملوك وحكام عظماء كُثر. فالله سبحانه وتعالى هو الذي أرخ له في كتابه المحفوظ، وهذا التاريخ سيبقى خالداً إلى أن تقوم الساعة، ليكون **أسوة للممكنين** في الأرض، ولمن يعملون الصالحات، ولمن ينتفعون من خدماتهم. فإذا كان تخليد الذكرى بالتمثال أو الكتابة البشرية قد يزول أو يتلف، فإن تخليد الله في كتابه المعجز هو الضمان الأبدي لبقاء هذه العبرة متجددة على مر العصور.

التمكين في الأرض: القدرة على التصرف وفق منهج الله

“إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً”. هذه الآية الكريمة تلخص جوهر **التمكين الإلهي**. فـ **معنى التمكين في الأرض** هو أن الله عز وجل يمنح الفرد أو الأمة الإمكانيات والوسائل التي تمكنهم من التصرف في كل أمورهم وتحقيق أهدافهم. ولكن الأهم من مجرد امتلاك هذه الإمكانيات هو الشرط الأساسي الذي يحدده القرآن: أن يكون المُمَكَّن مؤتمناً على تصريف هذه الأمور على حسب منهج الله. ذو القرنين لم يكن مجرد قائد عظيم، بل كان قائداً صالحاً يتبع الأسباب ويسعى لتحقيق الغايات بما يرضي الله.

عالم دين يشرح تفسير آيات من القرآن الكريم عن قصة ذي القرنين.

صورة توضيحية تجسد حكماً دينياً يتحدث عن قصص القرآن أمام جمع من الناس.

لقد ضرب لنا القرآن أمثلة واضحة للتمكين، مثل تمكين يوسف عليه السلام في أرض مصر، حيث “يتبوأ منها حيث يشاء”. وهذا يؤكد أن التمكين ليس محصوراً في مكان واحد، بل يشمل كل بقعة من الأرض يمكن للممكن أن يؤثر فيها. كما أن كلمة “في الأرض” توحي بشيوع **السيادة** والقدرة على التصرف في شتى أنحاء المعمورة. وهذا يعلمنا أن القوة الحقيقية ليست في الاحتكار، بل في القدرة على التأثير الشامل والعادل.

عندما بلغ ذو القرنين **مغرب الشمس**، وجد قوماً لا يجدون ما يسترهم من الشمس أو يقيهم البرد، أي أنهم كانوا يعيشون في بيئة قاسية وبدائية. وعندما بلغ **مطلع الشمس**، وجد قوماً آخرين. هذا التنقل الواسع من مشرق الأرض إلى مغربها، وتعامله مع شعوب مختلفة، يعكس قدرته على التكيف والتأثير في بيئات متنوعة. ومثل هؤلاء القوم البدائيين الذين لا يملكون مأوى، فإن الله يرزقهم ما يعوضهم عن ذلك، سواء بالدفء في الشتاء أو البرودة في الصيف، لأن تركيبتهم الجسدية (جلودهم) تتكيف مع البيئة. هذا يدل على أن التمكين لا يعني إلغاء الطبيعة، بل استخدامها بحكمة ومعرفة. هذه الرؤية الشمولية للتمكين يمكن أن تستلهم منها الدول الحديثة في برامج مشاريع التنمية المستدامة وأثرها.

الحكمة في المعاملة: العدل والإحسان مع الظالم والمحسن

يكشف القرآن الكريم لنا عن تفويض إلهي عظيم لذي القرنين في كيفية التعامل مع الأقوام الذين يلاقيهم: “قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً”. هذا التفويض يؤكد أن ذي القرنين كان مؤتمناً على التصرف بحكمة وعدل. فالمجتمعات التي لا يوجد فيها نظام للجزاءات تنتهي إلى الفوضى والتسيب، وهذا ما نراه في عالمنا اليوم عندما لا يتمكن المسؤولون من محاسبة المقصرين. فالجزاءات ليست فقط عقوبة، بل هي ميزان للمجتمع، تضمن العدل وتحفظ التوازن. وهذا يشمل أيضاً كيفية التعامل مع الظلم، سواء كان ظلماً عظيماً كـ **الشرك بالله**، أو ظلماً أقل من ذلك. فالله قد يمنح مهلة للظالم (كلمة “فسوف نعذبه” تدل على ذلك)، لفرصة التوبة والإصلاح، أو لإعداد الظروف اللازمة للعقاب الدنيوي الذي يهدف إلى موازنة حال المجتمع.

أما التعامل مع المحسنين، فكان بجزاء “الحسنى”، وهي صيغة تفضيل تعني أفضل الجزاء. وهذا يعني أن الله يأمر بـ **تشجيع المحسنين** وتكريمهم، ليس فقط بالجزاء الدنيوي، بل بالثناء والقدوة الحسنة. وهذا ما تهدف إليه المجتمعات الصالحة، حيث يتم الاحتفاء بالعمل المخلص والعامل المثالي. فـ **الجزاء الحسن** يجب أن يدفع الأفراد إلى التقرب من الله بأعمالهم وإخلاصهم. إن هذا الدرس مهم جداً في بناء المجتمعات، حيث أن تحقيق العدالة ومكافأة الإحسان هما أساس أي تقدم وازدهار. ومن هنا، يمكن استلهام مبادئ الحوكمة الرشيدة التي نناقشها في مقالنا عن مبادئ الحوكمة الرشيدة في الإسلام.

السد العظيم: القوة البشرية والإعجاز العلمي

عندما وصل ذو القرنين بين السدين، وهما جبلان عظيمان (جبال القوقاز كما يرجح البعض)، وجد قوماً لا يكادون يفقهون قولاً، أي أنهم لا يستطيعون التعبير بوضوح أو فهم اللغة بسهولة، لكنهم كانوا يشتكون من أعدائهم “يأجوج ومأجوج” الذين كانوا يفسدون في الأرض. هنا تبرز حكمة ذي القرنين في التواصل، حيث استطاع أن يفهم دلالات حركاتهم وإشاراتهم، ثم استغل هذه الدلالات ليفهم مطالبهم. هذا يعلمنا أن التواصل الفعال لا يعتمد فقط على اللغة المنطوقة، بل على القدرة على فهم الآخرين حتى في أصعب الظروف. وقد وعدوه بـ “خرج” (مال) مقابل أن يقيم **سداً عظيماً** يحميهم من يأجوج ومأجوج. لمزيد من المعلومات حول هذه القصة، يمكن الرجوع إلى موقع إسلام ويب.

لكن ذي القرنين رفض المال، وقال: “ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً”. هذا الموقف يعكس زهده في الدنيا، وحرصه على العمل لوجه الله. كما أنه طلب منهم “القوة البشرية” (العمالة والطاقة) ليكونوا جزءاً من هذا الإنجاز. هذا الردم لم يكن مجرد سد عادي، بل كان بناءً هندسياً عظيماً يتجاوز مفهوم السد العادي. لقد أمرهم بإحضار “زبر الحديد” (قطع كبيرة من الحديد)، ثم أمر بنفخ النار عليها حتى تحمر وتذوب. بعد ذلك، أمر بإحضار “القطر” (النحاس المذاب) ليصبه فوق الحديد المنصهر. هذه العملية أدت إلى إنشاء بناء متين وصلب يجمع بين قوة الحديد والنحاس، ويملأ جميع الفجوات بين الجبلين، ليصبح سداً أملس لا يمكن لأحد أن يتسلقه أو ينقبه. هذا الوصف يعكس إعجازاً علمياً سبق عصره، ويؤكد على أهمية الاستفادة من الموارد المتاحة لتحقيق الأهداف الكبرى. لمزيد من المعلومات حول التقدم الهندسي في العصور القديمة، يمكنك الرجوع إلى مقالات عن الإعجاز الهندسي في الحضارات القديمة.

وعد ربي حق: قيام الساعة ورؤية الحقائق

تختتم **قصة ذي القرنين** بذكر وعد الله بقيام الساعة: “فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً”. هذا يؤكد أن كل ما في الدنيا، بما في ذلك أعظم السدود، سينتهي ويدمر عند قيام الساعة. وهذا تذكير للبشر بأن قوة الله هي المطلقة، وأن الدنيا وما فيها زائل. عندئذ، سيظهر كل شيء بوضوح. ففي الآخرة، يرى الناس الحقائق بعين اليقين وحق اليقين.

يُنفخ في الصور نفختين: نفخة الصعق التي يموت فيها كل من في السماوات والأرض إلا من شاء الله، ونفخة البعث التي يبعث فيها الناس أحياءً. في ذلك اليوم، تُعرض جهنم للكافرين “عرضاً”، أي أنهم يرونها رؤية عين. أما المؤمنون، بفضل إيمانهم، فسيزحزحون عن النار ويدخلون الجنة. وهذا يبرز الفارق العظيم بين من صدقوا بوعد الله ومن كذبوا به. فالإيمان هو الذي ينجي العبد من عذاب النار ويقوده إلى الفوز العظيم. وفي هذا السياق، يتأكد لنا أهمية التدبر في آيات الله، كما نناقش في مقالنا عن أهمية التدبر في القرآن الكريم. هذه الرؤى القرآنية لا تقدم لنا فقط قصصاً تاريخية، بل تضع أمامنا دروساً عميقة حول الإيمان، العمل الصالح، العدل، والتمكين، لتكون نبراساً يهدي البشرية في كل زمان ومكان. لمعرفة المزيد عن الإعجاز القرآني، يمكنك زيارة بوابة الأزهر الإلكترونية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights