
بقلم زياد تامر
بدأ العلاج بـ التنويم المغناطيسي الذي لا يُعترف به بين فطاحل الأطباء.. كل جلسة مع اغنية لأم كلثوم.. حرص ألفريد على الالتماس لدى الإنجليز لإقناع الإذاعة إعطائه تسجيلات حفلاتها الساهرة التي كانت صفقة العمر الأولى للإذاعة حديثة الإنشاء. بدأت الجلسات تؤتي ثمارها بعد شهرين تقريباً من المحاولات الفاشلة..
عانت عزيزة من هستيريا شديدة فتكت بعقلها وافترست وعيها؛ في البدء تتحدث عن والدها -المخمور دائماً وأبداً- مقاطع متفرقة عن والدتها، مرض الدماء، عن الرعب، عن الفقد.
بعد خمسة أشهر اتزنت عزيزة بشكل كبير..
“حسنٌ يا عزيزة.. احكي لي إن استطعتِ عن والدتك”
رنت عزيزة شاردة حيث السرير بينما أم كلثوم تغني من اسطوانتها تسأل المحبوبة اذا ما كانت تزال تذكرها أم نستها وانتهى الأمر..
نهنهت قليلاً.. رباه ما أرق الشرق! صدح صوتها رقيقاً عذباً كمأساة تحكيها إحدى بطلات شكسبير الخالدات.
“كانت أحلى ما حدث في حياتي؛ كانت أمية لا تفقه حتى كلمات القرآن. حفظتْ أصغر السور كي ترددها في صلواتها؛ كل صلاة عين السور. كانت بسيطة ولكن كانت ذات عزم وطموح. قالت القابلة أنها لن تنجب تارة أخرى بعدي خاصة وقد كانت فرص الحمل صعبة مع الوصفات والزار. يومها جن أبي ضرباً فيها ولطماً وهي مازالت تعاني من آثار المخاض؛ عارٌ عليها أن أنجبت مرة واحدة ويوم أنجبت أنجبت أنثى.. ماذا يفعل بالأنثى؟! أ ((و ليس الذكر كالأنثى)) ؟ دائما ما يردد هذه الآية وهو مخمور..
كنتُ حياتها وآمالها.. لأول وآخر مرة وقفتْ أمام أبي واحتملتْ ضربه و سبابه تصرّ على تعليمي.. لا شأن له بي.. إن أراد أن يشغل نفسه بشيء ما فليظل مخموراً أفضل له..
كانت تحلم برؤيتي معلمة أو (دَكتورة) كما كانت تقول.. كانت تنتظر اليوم الذي تبخرني قارئة السور الصغيرة والأدعية القليلة التي استذكرَتْهَا دون فهم -ضحكتْ عزيزة بمرارة و هذا أمر جيد- مرة كانت تقرأ علىّ دعاء السفر ومرة دعاء بالرحمة على الميت..
كانت رائعة.. هذا الثوب -أشارت إلى ثوبها- ظلت أشهراً تتعلم كيف تفصله كي تراني فيه أول يوم أكون أولى الفتيات التي تلتحق بجامعة فؤاد.. كانت تريدني أن أصبح دَكتورة في مجال ما..
كنتُ احكي لها القصص التي اقرأها وأشرحها لها وكانت ترنو لي بإنبهار وتبسمل..
رحمها الله لم أخجل منها قط بل كنتُ افتخر أن أمي خياطة أمية حرصت بأميتها على تعليمي وإنقاذي من براثن الجهل..
كانت تقول: أعلمك كي تدعين لأولادك بالأدعية الصحيحة بفهم ولا تكونين مثلي.. كانت تريد تأمين حتى آخرتي وأولادي!
كانت تعمل ليل نهار.. أصرخ فيها أن ترأف بنفسها فكفاها عملاً؛ كانت تعمل لتسديد المال الذي استدانته من يهوديّ مرابٍ كي تبتاع ماكينة الخياطة وكي تحصل من زبائنها على ما يؤازر إكمال دراستي، كان يصل بها الحد إلى البكاء إن أصررتُ على ترك الكتاب كي أوصل إحدى الفساتين في برد قارس لإحدى اللاهيات في بيتوتهن..
لم يحتمل صدرها البرد؛ تمرد أخيراً عليها يوم بصقت الدماء على إحدى الفساتين..
بكت لإفسادها الفستان فعليها دفع ثمن القماش! تخيل! لم تبكِ رعباً من الدماء..
بعد جهد مضن اقترضتُ المال كي أحضر لها حكيماً..
(السُل) أخبرني ببساطة..
قطعاً لم تفهم أمي مدى هول الكلمة وبساطتها!
تمسكتُ بعمود السرير كي لا أقع ميتة، حثثتُ ملك الموت أن يرأف بي ولا يقبض روحي الملتاعة المتواثبة ولا يقرب من أمي قرباناً لي، إن أراد فعنده أبي جالس في حانة ما يشرب الخمر الرخيص..
“عام من السعال والدماء تخبو أمي يوماً بعد يوم، أذهب إلى إحدى العيادات كي أعمل ممرضة، تعلمتُ بعض الأساسيات.. وتعلمتُ ابتسامة الطبيب الكهل الكريهة ونظراته وهي تخلع ما يغمرني من ثياب ويده تتحسس على صدري بوقاحة. وكان عليّ أن احتمل لأجل أمي..
وذات شهر اشتد السعال وكثرت الدماء ويكاد أبي يخنق أمي ليرتاح من دمائها وصراخ سعالها..
لم أجد مكانا لإيوائها.. تحملتُ وتحملتْ..
في ليلة.. بعد كل ليلة.. أضم رأسها كي أعطيها ماء تشربه، أحيانا بالدواء وكثيراً سواه، فرغ الكوب وذهبتُ لإحضار غيره..
سمعتُ صوت سعال حاد بشع لم تحتمله يداي فسقط كوب الماء شظايا.. خطوت فوق الزجاج، أشعر بكل خطوة بالزجاج يغمر قدماي ويتحد معهما!
(أمي!)
لم تستطع التنفس، ثم رنت إلىّ.. وابتسمت لي بشفاه ملطخة بالدم..
لا! لا يمكن!
تسمرتُ واقفة وأنا أرنو لها تبتسم لي.. لما لا تسعل؟! أريد أن أسمع صوت سعالها البشع..
نام أبي أخيراً بعد أن هدأ الكون من صراخ سعالها..
(أمي! بالله لا تبتسمي لي هكذا!) خطوتُ ونسيتُ الزجاج في قدميّ، كان صدرها ساكناً ومازالتْ تبتسم إلى حيث كنت واقفة..
(أمي! أرجوكِ لا تبتسمي! اسعلي كما شئتِ)
وظلتْ تبتسم إلى حيث وقفتُ ومددت يداً ثائرة بالارتعاش إلى حيث أنفها؛ لم أشعر بسخونة الأنفاس ولا ببرودتها، كتمت شهقة أردت أقصى المملكة أن تشاركني إطلاقها، رنوت وإذا فراشها مبتل! بالت على نفسها! ظللتُ واقفة لساعات أرنو لابتسامتها الدامية، ثم بلا وعي خلعت عنها ملابسها، حممتها بجهد وكان جسدها قد تصلب وألبستُها أزهى ثيابها، لم أعبأ إذا أُصبتُ من عدوى السل؛ على الأقل أمرض إكراماً لها..
وكل ذلك وأبي نائم تحت وقع الخمر..
ذهبتُ إلى المستوصف وأبلغتُ عن موت أمي، جاءوا وحملوا جثمانها وانتهى الأمر.. انتهى كل شيء..
غريب! لم أتمكن من تخفيف وطأة المرض لتعثر دفع تكاليف الرعاية وجاء المسؤولون وقاموا بحرفة الموت والغُسل والدفن في مقابر الصدقة.. بالمجان! لما يكرمون الموت أكثر من إكرام الحياة؟!”
صمتتْ عزيزة أخيراً ودموعها تنساب ببطء..
“بماذا تشعرين الآن؟”
صدح صوتها..
“لا أدري! لا أصدق كونها اختفت عن الوجود هكذا فجأة.. وكأني بها تخيط فستاناً لي أو لإحدى اللاهيات.. أحياناً أسمع همس الأدعية وسوسة حرف السين في السور..
أحيانا أشعر أني السبب؛ لو كنتُ أمية لما تكبدتْ أمي كل تلك المعاناة ولكن لا.. أبي السبب؛ أبوته للخمر كانت أعمق وأغزر من أبوته لنا!
رجل مخمور فاسق بلا فائدة. ربما لستُ السبب؛ أبي السبب.
لا أمنع أن أدعو الله أن يقبض روحه وهو مخمور -بل هو دائماً مخمور!- وهو يشرب الرخيص من الخمر ويعربد.. ستكون خير خاتمة له”.
……………….
بعدها استقرت نفسية عزيزة بشكل كبير، تفاعلتْ بوعي وعملت إلى حين انتهاء دراستها ممرضة لدى الدكتور ألفريد واختفت الهستيريا في مكان سحيق..
قطعاً ستظل الذكرى مقتحمة حياتها كلما رنتْ لابتسامة أو سمعت صوت سعال، لم يتقدم العلم بعد في محو آثار الذكرى ولكن ربما بعد عقود أو قرون ستصير ذكرى هستيريا عزيزة شيئاً يُمحى أثره بالأيام.
تمت
القصة مستوحاة من إحدى حالات كتاب (جسمك يتذكر كل شيء) للدكتور بيسيل فان دير كولك لذا وجب التنويه.
خدمات ومتابعة إضافية من الدليل نيوز
كن جزءًا من مجتمع الدليل نيوز وتابع أهم المستجدات:
لتبقى على اطلاع دائم بآخر القصص والأخبار الثقافية، انضم إلينا عبر منصاتنا:
لا تفوت آخر الأخبار والمستجدات من “الدليل نيوز” تابع أسعار العملات العالمية: