ميلاد الأنبياء: فلسفة إلهية ورسالة للبشرية تتجلى في المولد النبوي الشريف
البعض من قليلي العلم ينظرون إلى من يحتفلون بمولد النبي صلى الله عليه وسلم على أنهم يرتكبون جرمًا أو معصية، ويعتقدون اعتقادًا خاطئًا أن الأنبياء والرسل يُنظر إليهم منذ بعثتهم فقط، وهذه سقطة علمية ومنهجية.
فالأنبياء والرسل لم يكونوا مجرد شخصيات تاريخية برزت لحظة البعثة، بل هم مصطفون من قبل ميلادهم، مُهيأون برسالة، محاطون بعناية الله منذ اللحظة الأولى. ولو لم يكن للميلاد قيمة عظيمة، لما سجل القرآن الكريم آيات بينات تصف ميلادهم ونشأتهم وتفاصيل
حياتهم المبكرة.إن تسجيل القرآن لميلاد الأنبياء ليس حدثًا عابرًا، بل هو فلسفة إلهية تؤكد أن ميلادهم بداية مشروع رباني عظيم لإصلاح الأرض، وأن الرسالة لا تأتي فجأة، بل تسبقها عناية وتربية وإعداد.
عناية الله بالأنبياء إعدادًا لحمل الرسالة
الرسالات السماوية لم تكن يومًا صدفة أو قرارًا بشريًا، وإنما اختيار إلهي محكم، قال تعالى: ﴿ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام:124]. وهذا قانون إلهي عظيم: أن كل مهمة عظيمة لا بد أن يسبقها إعداد طويل، وتربية دقيقة، وصقل للنفوس بالابتلاءات والتجارب، حتى يكون النبي أهلاً لحمل أمانة الوحي وتبليغ رسالة السماء للبشرية.
وهنا يظهر البعد التربوي: فذكر ميلاد الأنبياء يربي الأجيال على فهم أن كل نجاح وقيادة لا تأتي فجأة، وإنما تسبقها مراحل إعداد وصبر وابتلاء. إن في ذلك درسًا عمليًا للوالدين والمعلمين بأن يربوا أبناءهم على الصبر والجدّ وتحمل المسؤولية.
فلسفة ذكر ميلاد الأنبياء والرسل في القرآن الكريم
لم يكن ذكر الميلاد في القرآن مجرد تاريخ أو رواية، بل هو رسالة وعبرة …فقد كان ميلاد نبي الله موسى عليه السلام آية على أن قدرة الله تعلو جبروت الطغاة.
وكان ميلاد نبي الله يحيى عليه السلام معجزة في قلب العقم والشيخوخة، يعلن أن الله قادر على أن يخرج الحياة من الموت واليأس.
وكان ميلاد نبي الله عيسى عليه السلام بلا أب آية للعالمين على قدرة الله المطلقة.أما ميلاد نبي الله محمد ﷺ خاتم الأنبياء، إعلان لمرحلة الخلود الرسالي للبشرية جمعاء.
وهنا يبرز البعد الحضاري: فالأمم الراقية تحتفي بعظمائها وتخلّد ذكراهم، فكيف لا تحتفي أمة الإسلام بخاتم الأنبياء وسيد المصلحين، الذي أخرج البشرية من الظلمات إلى النور، وربط الأرض بالسماء؟
نماذج ومقارنة بين ميلاد الأنبياء والرسل في القرآن الكريم ودلالتها
القرآن الكريم ليس كتاب تاريخ أو سيرة، لكنه حين يذكر ميلاد نبي أو نشأته فإنه يقصد رسالة عميقة ودلالة إيمانية.
فميلاد الأنبياء ليس حدثًا عابرًا، بل هو بداية إعداد رباني، وإشارة إلى العناية الإلهية التي تحوط أنبياءه منذ لحظة الميلاد وحتى اكتمال الرسالة.
وقد اهتم القرآن بذكر ميلاد بعض الأنبياء تفصيلًا (مثل أنبياء الله موسى ويحيى وعيسى عليهم السلام )، وأغفل تفاصيل ميلاد آخرين (مثل أنبياء الله نوح وإبراهيم ومحمد ﷺ) ليؤكد أن العبرة ليست بالميلاد وحده وإنما بالرسالة التي يحملونها.
ومن هنا نتعلم أن الاحتفاء بميلاد الأنبياء والرسل إنما هو اقتداء بالقرآن الذي سجّل هذه الأحداث، لنستلهم منها دروس الإيمان والصبر واليقين، ولنجعل من ذكراهم مناسبة لتجديد العهد مع رسالتهم.
نماذج من ميلاد الأنبياء في القرآن الكريم
ميلاد موسى عليه السلام
وُلد نبى الله موسى عليه السلام في زمن بطش فرعون، لكن العناية الإلهية حفظته: يقول تعالى ﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنْ أَرْضِعِيهِۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱلْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِيۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص:7] وقصة ميلاده طويله ومعروفة . وتربى في بيت فرعون فاكتسب الحكمة والسياسة، ثم عاش في مدين ليتعلم الصبر والعمل. فكان إعدادًا متدرجًا قبل الرسالة.
الدلالة: ميلاده ارتبط بالخطر على حياته لدرجة ان امه القته فى اليم ..وتربى فى بيت عدوه كما ارتبطت ايضا بالنجاة من المخاطر ليكون شاهدًا على أن العناية الإلهية تسبق الرسالة.
ميلاد نبى الله يحيى عليه السلام
جاء ميلاد نبى الله يحى عليه السلام بعد عقم الشيخوخة واستجابة لدعاء زكريا عليه السلام:يقول تعالى ﴿يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُۥ مِن قَبْلُ سَمِيّٗا﴾ [مريم:7].
ووصفه الله منذ صغره: ﴿وَآتَيْنَٰهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّٗا * وَحَنَانٗا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةٗ وَكَانَ تَقِيّٗا﴾ [مريم:12-13].
الدلالة: ميلاده كان معجزة، واسمه منحة إلهية، ونشأته في الطهر والعفة تجعلنا نحتفي به كرمز للنقاء الإنساني.
ميلاد عيسى عليه السلام
كان ميلاد نبى الله عيسى عليه السلام آية للعالمين بلا أب، واصطفاء لمريم عليها السلام:﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصْطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَٰلَمِينَ﴾ [آل عمران:42].وقد نطق في المهد: ﴿إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلْكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا﴾ [مريم:30].
الدلالة: ميلاده معجزة غير مسبوقة، وإعلانه العبودية لله منذ المهد ردّ على كل غلوّ، ورسالة توحيد من أول لحظة.
ميلاد نبى الله يوسف عليه السلام
نشأ نبى الله يوسف عليه السلام في بيت نبوة، وابتُلي منذ صغره بالمحن حتى صار عزيز مصر:يقول تعالى ﴿وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلْأَرْضِ﴾ [يوسف:21].
الدلالة: لم يذكر القرآن تفاصيل ميلاده، لكن قصته مع طفولته وأسرته ترسم طريق الصبر والتمكين.
ميلاد إبراهيم عليه السلام
وُلد نبى الله ابراهيم عليه السلام في بيت وثنية، لكنه منذ صغره واجه الباطل بعقل نير:﴿فَنَظَرَ نَظْرَةٗ فِي ٱلنُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٞ﴾ [الصافات:88-89].حتى قال الله فيه: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗا﴾ [البقرة:124].
الدلالة: ميلاده في بيئة مظلمة ثم إشراق التوحيد منه يؤكد أن الله يخرج النور من قلب الظلام.
ميلاد ونشأة النبي محمد ﷺ
كان خاتم الأنبياء ثمرة دعوة نبى الله إبراهيم عليه السلام :يقول تعالى﴿رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولٗا مِّنْهُمْ يَتْلُوا۟ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ﴾ [البقرة:129].
كما أنه وُلد يتيمًا لتكون رعايته بيد الله مباشرة: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمٗا فَـَٔاوَىٰ﴾ [الضحى:6].
وقد نشأ على الصدق والأمانة، ولقبه قومه “الصادق الأمين”، وأهّله الله بالرعي والتجارة، حتى جاءه الوحي وهو في الأربعين من عمره .
الدلالة: ميلاده ارتبط بعناية الله الخاصة، ونشأته في اليتم إعداد ليكون رحمة للعالمين.
مقارنة بين دلالات الميلاد النبوي
سوف نجد أن ولادة كل من نبى الله آدم ونبى الله عيسى عليهما السلام كانت ولادة معجزة خارج قوانين البشر (فقد كان خلق ادم بلا أبوين وميلاد عيسى بلا أب ).
اما نبى الله يحيى وإسحاق عليهما السلام فقد كان ميلادهما في ظروف مستحيلة (شيخوخة/عقم).
كما أن نبى الله موسى ونبى الله محمد صلوات ربى عليهما كان ميلادهما محفوف بالمخاطر والاضطهاد، لكن محفوظ بالعناية الإلهية.
وبالنسبة لأنبياء الله نوح وإبراهيم ويوسف عليهم السلام فالتركيز لم يكن على الميلاد بل على الرسالة والصبر والتمكين.
مما سبق يتضح لنا أن عناية القرآن الكريم بتسجيل ميلاد بعض الأنبياء ونشأتهم هي رسالة لنا نحن المؤمنين: بأن ميلادهم بداية رسالة وليس حدثًا عابرًا. وأن العناية الإلهية تسبق الرسالة وتعدّ النبي منذ طفولته. وأن الاحتفاء بميلادهم وسيرتهم إحياءٌ لما أحياه القرآن، وتجديد للعهد مع رسالاتهم.
فالاحتفال بذكرى ميلاد الأنبياء هو احتفال بالمعجزات، وبالعناية الإلهية، ببدء الرسالات، وبالمبادئ التي جاؤوا بها، وفي مقدمتها مولد سيدنا محمد ﷺ خاتم النبيين ورحمة للعالمين.
الذين يمنعون الاحتفال بميلاد الأنبياء بعيدون عن المنهج الإلهي
من يعارضون تذكر ميلاد الأنبياء بدعوى “البدعة”، يغفلون أن الله نفسه قصّ ميلادهم في القرآن، وجعل ذلك وسيلة للعبرة. فالاحتفال بالمولد ليس عبادة جديدة، بل تجديد للعهد مع الرسالة، وتذكير بواجب الاقتداء بمكارم الأخلاق.
كما أن الاحتفاء بذكرى الميلاد ليس المقصود به الزينة أو المظاهر فقط، بل استحضار الرسالة، وتجديد الإيمان، وتعليم الأجيال معاني الرحمة والعدل. يقول تعالى ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٞ لِّأُوْلِي ٱلْأَلْبَٰبِ﴾ [يوسف:111].
وهنا يبرز البعد الشرعي: فقد ورد في السنة أن النبي ﷺ كان يصوم يوم الاثنين ويقول: ذلك يوم وُلدت فيه (رواه مسلم)، وهو أصل واضح في مشروعية تذكر الميلاد والاحتفاء به. فمن يجعل الذكرى “بدعة” قد ضيّق ما وسّعه الله ورسوله.
ختامًا ..
لقد كان مولد النبي ﷺ نورًا أضاء الكون: قال العباس بن عبد المطلب: “وأنت لما ولدت أشرقت الأرض”.
وقال حسان بن ثابت: “كان وجهه نورًا يضيء”.
وقال البوصيري: “كيف يدرك في الدنيا حقيقته قومٌ نيام”.
وقال شوقي: “ولد الهدى فالكائنات ضياء”.
إن ذكرى المولد دعوة متجددة للحب والاقتداء، للتربية على مكارم الأخلاق، ولتثبيت معاني العدل والرحمة في مجتمعاتنا.
فلنجعل من ذكرى المولد النبوي الشريف موسمًا للصدق في معاملاتنا، ورحمة في بيوتنا، وعدلًا في مجتمعاتنا، وتجديدًا لعهدنا مع القرآن الكريم وسنة النبي الأمين.
أ.د / ابراهيم حسينى درويش