حضارة وتاريخ

المتحف المصري الكبير.. أسطورة القرن الحادي والعشرين وذاكرة الحضارة التي لا تموت

كتب: د. ابراهيم درويش

على ضفاف التاريخ، وعند بوابة الصحراء التي شهدت ميلاد أول حضارة عرفتها الإنسانية، يقف المتحف المصري الكبير شامخًا كرمزٍ للعبقرية المصرية، يجمع بين عراقة الماضي وإبهار الحاضر، ليُصبح بحق أيقونة القرن الحادي والعشرين و”أعظم متحف أثري في العالم”.
إنه ليس مجرد مشروع حضاري، بل حكاية وطن آمن أن ماضيه هو مفتاح مستقبله، وأن الحفاظ على التراث هو الطريق الأجمل نحو التنمية والنهضة.

الحلم الذي صار واقعًا

بدأت فكرة المتحف منذ أكثر من قرن، حين أدرك علماء الآثار في مصر أن كنوز الحضارة الفرعونية التي تملأ المتاحف والمخازن تستحق صرحًا يليق بها.
وفي مطلع الألفية الجديدة، تحوّل الحلم إلى مشروع قومي، حين أعلنت الدولة المصرية عن إنشاء المتحف المصري الكبير ليكون أكبر متحف مخصص لحضارة واحدة في العالم.

واستمر العمل به لسنوات طويلة، بتعاون مصري دولي غير مسبوق، إلى أن جاءت رؤية الجمهورية الجديدة بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي لتضع المشروع ضمن قائمة المشروعات القومية الكبرى، وتمنحه الروح التي جعلته يخرج إلى النور في أبهى صورة.

اليوم، وبعد عقدين من العمل المتواصل، يقف المتحف المصري الكبير كأعظم هدية تقدمها مصر للعالم في القرن الحادي والعشرين، وكأنها تقول للعالم من جديد: «هنا مهد الحضارة… وهنا تبدأ الحكاية من جديد.»

موقع يلامس قلب التاريخ

يقع المتحف على بعد كيلومترين فقط من أهرامات الجيزة، في موقع عبقري يربط بين الماضي والحاضر في لوحة فنية بديعة.
فعندما يقف الزائر في البهو العظيم للمتحف، يرى من خلف الجدران الزجاجية الشفافة قمم الأهرامات الثلاثة، وكأن الزمان يدور دورة كاملة ليجمع بين الفرعون والهرم والزائر في مشهد واحد، يختصر آلاف السنين من التاريخ.

اختيار هذا الموقع لم يكن صدفة، بل جاء ليجعل من المتحف المصري الكبير جزءًا من منظومة متكاملة تشمل منطقة الأهرامات، والمتحف، والممشى السياحي، ومراكز الخدمات والفنادق، ليصبح المكان أكبر مقصد ثقافي وسياحي متكامل في العالم.

عمارة تحكي هوية المصريين

من الوهلة الأولى، يأسر المتحف زواره بجمال تصميمه الهندسي، الذي يمزج بين البساطة والعظمة، وبين الحداثة وروح المعابد المصرية القديمة.
الواجهة الأمامية، المصنوعة من الحجر الجيري الوردي المستوحى من معابد الأقصر والكرنك، تمتد بارتفاعات هرمية تعكس روح المكان وتُحاكي الأهرامات في عمقها ورمزيتها.
أما الداخل، فهو عالمٌ آخر؛ ممرات مضيئة وساحات رحبة ونوافذ ضخمة تطل على التاريخ، ليعيش الزائر تجربة حسية تجمع بين الرؤية والتأمل والدهشة.

المساحة الإجمالية للمتحف تتجاوز نصف مليون متر مربع، تشمل قاعات عرض ضخمة، ومركزًا للترميم يُعد الأكبر في الشرق الأوسط، ومكتبة متخصصة، ومركزًا للتعلم، وساحات خضراء، ومناطق ترفيهية ومطاعم ومقاهي تطل على الأهرامات.
إنه بحق مدينة حضارية داخل مدينة، تجمع بين الثقافة والتعليم والترفيه في تجربة فريدة من نوعها.

كنوز لا تُقدّر بثمن

يضم المتحف المصري الكبير أكثر من مائة ألف قطعة أثرية، بعضها يُعرض لأول مرة، تمثل مراحل تطور الحضارة المصرية من عصور ما قبل التاريخ حتى العصر اليوناني الروماني.
ومن أبرز هذه الكنوز:
مجموعة الملك توت عنخ آمون كاملةً (أكثر من ٥٠٠٠ قطعة) تُعرض لأول مرة في مكان واحد منذ اكتشافها عام ١٩٢٢.

التمثال الضخم للملك رمسيس الثاني الذي يستقبل الزوار في البهو العظيم بارتفاع أكثر من ١١ مترًا.
تماثيل الملوك والملكات العظام، مثل حتشبسوت وتحتمس الثالث وأمنحتب الثالث وحتّي ملوك الدولة الحديثة.
برديات نادرة، ومومياوات ملكية، ومجوهرات مذهلة، وأدوات من الحياة اليومية، وصناعات حرفية تظهر عبقرية المصري القديم في أدق تفاصيل حياته.
كل قطعة في المتحف تحكي قصة من قصص الإنسان الأول الذي صنع الحضارة، قصة المصري الذي علّم العالم الكتابة والعمارة والفلك والطب والحساب، والذي لم يكن يرى في الموت نهاية، بل بداية للحياة الأبدية.

التكنولوجيا في خدمة التاريخ

يُعد المتحف المصري الكبير نموذجًا لتكامل التراث والتكنولوجيا.
فقد تم توظيف أحدث تقنيات العرض المتحفي في العالم، باستخدام الإضاءة الذكية والوسائط التفاعلية والواقع المعزز (AR)، لتجعل الزائر يعيش تجربة تعليمية وسياحية تفاعلية فريدة.
فمن خلال الشاشات ثلاثية الأبعاد يمكن للزائر أن يرى كيف كانت القطع تُستخدم في حياتها الأصلية، أو أن يشاهد إعادة بناء رقمية لمقبرة فرعونية كما كانت قبل آلاف السنين.

كما تم اعتماد أنظمة أمان ومراقبة حديثة لحماية القطع الأثرية من أي تأثيرات بيئية أو بشرية، لتبقى محفوظة للأجيال القادمة كما حفظها المصري القديم في مقابر الملوك.

مركز عالمي للبحث والترميم

المتحف ليس مجرد مكان للعرض، بل مركز علمي عالمي لتأهيل الكوادر وصيانة التراث.
فقد أنشئ بداخله أكبر مركز ترميم في إفريقيا والشرق الأوسط، يضم أكثر من ١٩ معملًا متطورًا لتحليل وفحص وترميم الآثار من مختلف المواد: الحجرية، الخشبية، المعدنية، العضوية، والمنسوجات.

يعمل بالمركز خبراء مصريون مدربون على أعلى المستويات، إلى جانب التعاون مع جامعات ومراكز بحث دولية، مما جعل المتحف قبلة للباحثين من مختلف دول العالم.
وبذلك أصبح المتحف المصري الكبير مؤسسة علمية وثقافية متكاملة، تعيد لمصر دورها التاريخي كحارس للتراث الإنساني وراعية للحضارة العالمية.

رحلة الزائر بين الدهشة والفخر

تبدأ تجربة الزائر من اللحظة التي تطأ فيها قدماه ساحة المتحف، حيث يستقبله التمثال المهيب لرمسيس الثاني، وكأنه يرحب بضيوف مصر من شتى أنحاء العالم.
ثم يصعد عبر الدرج العظيم الذي يضم عشرات التماثيل الملكية في مشهد مهيب يعكس مجد الملوك والفراعنة.

ومن هناك ينتقل الزائر إلى قاعات العرض التي تقدم الحضارة المصرية في تسلسل زمني مبدع، مدعوم بالوسائط التفاعلية والمجسمات ثلاثية الأبعاد التي تحكي كيف عاش المصري القديم وكيف فكّر وأبدع.
وتتوج الرحلة بزيارة قاعة توت عنخ آمون، التي تعد درة المتحف وأشهر قاعاته، حيث يعيش الزائر تجربة استثنائية بين مقتنيات الملك الطفل، من العرش الذهبي إلى القناع الشهير الذي أصبح رمزًا عالميًا للحضارة المصرية.

مشروع وطني ذو أبعاد عالمية

المتحف المصري الكبير ليس مجرد صرح أثري، بل مشروع وطني متكامل يجمع بين البعد الثقافي والاقتصادي والسياحي.
فهو يعيد رسم خريطة السياحة الثقافية في مصر، ويخلق منطقة جذب جديدة تضم المتحف ومنطقة الأهرامات ومراكز التسوق والفنادق والمطاعم العالمية.

وتشير التقديرات إلى أن المتحف سيستقبل أكثر من خمسة ملايين زائر سنويًا بعد الافتتاح الكامل، مما سيحقق عائدًا اقتصاديًا ضخمًا ويدعم الاقتصاد الوطني.
كما سيزيد من مدة إقامة السائح في القاهرة الكبرى، ويعزز حركة السياحة الثقافية والتعليمية والمؤتمرات، ما يجعل القاهرة مركزًا عالميًا للثقافة والتراث.

رمز للجمهورية الجديدة

في ظل رؤية الدولة المصرية لبناء الجمهورية الجديدة، يمثل المتحف المصري الكبير تجسيدًا حيًا لهذه الفلسفة.
فهو يربط بين ماضي مصر المجيد وحاضرها المزدهر ومستقبلها الواعد.

إنه رمز لنهضة المصري المعاصر الذي لا يكتفي بالاحتفاء بتاريخه، بل يوظفه في بناء المستقبل، ويقدمه للعالم في ثوب حديث يليق بعظمة مصر ومكانتها الدولية.
كما يعكس المشروع قدرة الدولة على تنفيذ المشروعات العملاقة بمعايير عالمية، بأيدٍ مصرية وإرادة لا تعرف المستحيل.

العائد الثقافي والسياحي والاقتصادي

المتحف المصري الكبير يمثل استثمارًا في الهوية قبل أن يكون استثمارًا في السياحة.
فعلى الصعيد الثقافي، هو جسر يربط الأجيال الجديدة بجذورها، ويعزز الانتماء الوطني والفخر بالحضارة المصرية.

وعلى الصعيد السياحي، هو محور رئيسي في خطة الدولة لتطوير صناعة السياحة المستدامة وزيادة عدد الزائرين، خاصة مع ربطه بالمشروعات الكبرى مثل العاصمة الإدارية الجديدة، والمتحف القومي للحضارة المصرية، وتطوير منطقة الأهرامات.
أما على الصعيد الاقتصادي، فالمتحف يسهم في خلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة لعشرات الآلاف من المصريين، وينشّط قطاعات الخدمات والنقل والفندقة والتجارة، فضلاً عن دوره في جذب الاستثمارات الثقافية والفنية.

المصري… بطل الأسطورة

وراء هذا الصرح العملاق، مصريون بسطاء وعظماء في آنٍ واحد؛ مهندسون، وعمال، ومرممون، وخبراء آثار، حملوا على عاتقهم حلم وطنٍ بأكمله.
كل حجر، وكل تمثال، وكل قطعة وُضعت في مكانها بدقة، هي نتاج عرق مصري وإبداع مصري، يستحق أن يسجله التاريخ بأحرف من نور.

إنهم أحفاد بناة الأهرام، الذين أثبتوا أن العبقرية المصرية لم تكن يومًا ماضٍ وانتهى، بل هي روحٌ باقية تتجدد في كل عصر.

المتحف… جسر الحضارات ورسالة إنسانية

المتحف المصري الكبير ليس فقط وجهة سياحية، بل رسالة حضارية إلى العالم.
فهو يذكّر الإنسانية كلها بأن الحضارة الحقيقية لا تُبنى على الحروب أو الغزو، بل على الإبداع والعلم والإيمان بقيمة الإنسان.

وهو أيضًا منصة للحوار الثقافي بين الشرق والغرب، تُعيد تعريف العلاقة بين الماضي والمستقبل، وتؤكد أن حماية التراث ليست رفاهية، بل واجب إنساني مشترك.

دعوة مفتوحة للعالم

يفتح المتحف المصري الكبير أبوابه لكل شعوب الأرض، داعيًا إياهم لاكتشاف أعظم قصة كتبها الإنسان.
إنه رحلة بين الزمان والمكان، بين الجمال والخلود، بين الإنسان وربّه الذي منحه موهبة الخلق والإبداع.

وفي كل خطوة داخل هذا الصرح، يسمع الزائر صدى أصوات الأجداد، وكأن الفراعنة يهمسون له من خلف الزجاج”ها نحن هنا… بنينا مجدنا بأيدينا، وها أنتم ترون بأعينكم كيف كتب المصريون أول سطور الحضارة.”

ختامًا… أسطورة لا تموت

في نهاية الزيارة، يخرج الزائر من المتحف المصري الكبير وهو يحمل إحساسًا لا يُنسى؛ إحساس الفخر والانبهار، والاقتناع بأن مصر ليست مجرد بلد، بل حالة إنسانية خالدة.
إنها الحضارة التي علّمت العالم معنى الخلود، والمتحف المصري الكبير هو الشاهد المعاصر على أن هذا الخلود ما زال حيًا.

المتحف المصري الكبير… ليس مجرد مبنى، بل رسالة حب وخلود من مصر إلى الإنسانية.
إنه وعدٌ بأن الحضارة التي أشرقت منها شمس التاريخ، ستظل منارة تضيء طريق المستقبل.

الدليل نيوز عشان البلد والناس

لتبقى على اطلاع دائم بآخر المستجدات والتطورات في جميع المجالات، ندعوك للانضمام إلى مجتمعنا.

تواصل معنا عبر منصاتنا:

استكشف أقسامنا الرئيسية:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights