حضارة وتاريخ

بيلزوني: حين تحوّل المغامر إلى لص الحضارة المصرية

(تهريب الآثار المصرية١٤)

بقلم: دكتور قاسم زكى
أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة المنيا،
عضو اتحاد الأثريين المصريين، وعضو اتحاد كتاب مصر

“جيوفاني باتستا بيلزوني” (Giovanni Battista Belzoni؛ 1778م-1823م) هو مستكشف إيطالي في أوائل القرن التاسع عشر، اشتهر برحلاته الاستكشافية في مصر. لقد كان بيلزوني شخصية محورية في عالم الآثار، حيث ساهم بشكل كبير في فهمنا للحضارة المصرية القديمة. لكن يمكننا اعتباره أيضا أول وأخطر مغامر عبث وهرب الآثار المصرية للخارج في بديات القرن التاسع عشر الميلادي.

بيلزونيبيلزوني شخصية مميزة

هو الابن الرابع لحلاق متواضع ينتمي لأسرة من روما. ولد جيوڤانّي في بلدة “بيدو” أو “بادوفا” (Padova) بإيطاليا في 15 نوفمبر 1778م، وتلقي تعليما هامشيا في صباه ودرس اللاهوت، كما درس أيضا بعض أسس الهيدروليكيا(علم دراسة الخواص الميكانيكية للسوائل) والميكانيكا (علم حركة الأشياء). كما أنه ربما قد اكتسب مهارات في الميكانيكا والهيدروليكيا من خلال العمل على نوافير روما الشهيرة. ولكنه ظل نصف أمي طوال حياته،

ويغار ممن درسوا العلوم من خلال دراسات كلاسيكية. بدأ يمارس العمل منذ أن بلغ 16عاما، ونظرا لسوء أحوال إيطاليا بعد احتلال نابليون فرنسا لها (1798م)، اضطر للخروج من روما ليتفادى التجنيد الإجباري في جيوش نابليون، وأثر الرحيل مع أخيه كباعة جائلين في أمستردام بهولندا، كما عمل حلاق أيضا، ثم غادر هولندا إلى لندن (عام 1803م). بدأ في لندن يقوم بأدوار هزلية على مسارحها. وتزوج في العام 1803م من امرأة إنجليزية تدعى “سارة بان” وعملا سويا في السيرك. كان بلزوني قوي البنية عملاقاً طوله يتجاوز المترين،

وكان وسيما، وجريئا وشجاعا لا يهاب شيء، وواسع الحيلة وحسن التصرف، ويتمتع بذكاء فطري، كما أنه يحسن قراءة وجوه الأشخاص والحكم عليهم، صبور جدا، عنيد للغاية، متمرد بطبعه. وفى لندن كان وزوجته في بعض الأحيان يرتزقان من عروض القوة والمهارة في السيرك وأيضا في شوارع لندن‏.‏

بيلزوني والهبوط إلى مصر

قابل بيلزوني في مالطة أمير البحر جنرال “إسماعيل الجبلطار” وكيل أعمال محمد علي باشا ومندوبه للبحث عن المهندسين والخبراء الأجانب لمصلحة الباشا، لتطوير الزراعة والصناعة المصرية، ويتعارفا وتربطهما صداقة قوية ويقدم بيلزوني فكرة صنع ساقية تؤدي إلى إحداث ثورة زراعية في مصر، كان يبحث عنها محمد علي باشا. ‏ وتحمس إسماعيل الجبلطار للمشروع، ودعاه إلى زيارة القاهرة وقدمه إلى محمد علي باشا شخصيا. لكن أثناء استعراض التجربة (عام 1815م) أمام محمد علي باشا، تعرض بلزوني لمكيدة ففشلت التجربة.

بيلزوني وتغيير المسار

ولكن هذا الإيطالي العنيد أبي أن يعود أدراجه فصمم على استكمال رحلاته، وتجربة حظه في مجال أخر في مصر التي فتحت أبوابها لكل غريب بغية النهضة، وكانت تجارة وتهريب الآثار القديمة بضاعة رائجة وغير ممنوعة آنذاك. وتقابل مع المستشرق السويسري “بوركهارت” (الحاج إيطالي)؛ ثم قدمه لهنري سولت قنصل بريطانيا في مصر واتجه لعمليات التنقيب عن الآثار والتجارة فيها.

إنجازات مذهلة لبيلزوني

وبرغم أنه لم يكن لدى بيلزوني أي معرفة بعلم الآثار لكنه انطلق كالمارد يكتشف وينزح آثار مصر لخارج أرضها. ففي خلال أربع سنوات وأربعة أشهر فقط مكثها في مصر (1815م-1829م) استطاع تسجيل إنجازات كبيرة فاقت كل من عمل في هذا المجال من السابقين له أو اللاحقين إياه، فقد اكتشف 3 مقابر في وادي الملوك في عشرة أيام فقط (9-16 أكتوبر 1817م) كان أهمها مقبرة سيتي الأول (KV17) والتي عُرفت لاحقًا باسم “مقبرة بيلزوني”. (وكانت في حالة جيدة نسبياً، مما سمح للعلماء بدراسة الفن المصري القديم بشكل أفضل)، ومقبرة “آي”(KV23) خلف توت عنخ آمون، ومقبرة رمسيس الأول(KV16) ، وبعدها اكتشف مقبرة تاوسرت وست ناخت (KV14) وهي مقبرة مزدوجة.

وكشف اللثام عن معبد أبو سمبل الكبير (حيث قام بتنظيف الرمال المتراكمة أمامه وأستطاع أن يكون أول أوربي يدخل هذا المعبد(1817م)، مما كشف عن جمال هذا المعبد الضخم ونقوشه الرائعة). وأحدث فتحة في جسم الهرم الثاني (هرم خفرع) واستطاع أن يلج داخله (1818م). وقام بيلزوني باستكشاف العديد من القاعات والأروقة الخفية في معبدي الكرنك والأقصر، وكشف عن العديد من الآثار الهامة بهما (بين عامي 1817 م و1818م). وأكتشف مدينة “برنيس” (برنيكة) على ساحل البحر الأحمر، في رحلة شاقة داخل دروب الصحراء الشرقية (1818م). كما اتجه غربا في الصحراء الغربية وعاش مع أهل الواحات البحرية (1819م)، وسجل كل ذلك ونشره. وبذا يكون بيلزوني ساهم بشكل كبير في كشف أسرار الحضارة المصرية القديمة، حيث قدم للعالم العديد من الاكتشافات الأثرية الهامة.

وساهم في الترويج للسياحة الأثرية في مصر، حيث آثار اهتمام العالم بالحضارة المصرية القديمة، حيث قام بتسجيل اكتشافاته ونشرها في كتابه (بلزونى في مصر “سرد بالعمليات والاكتشافات الحديثة داخل الأهرام والمعابد والمقابر والكشوف الأثرية بمصر والنوبة). وكذا ما كان ينشره في الصحف والمعارض التي كان يعقدها والمحاضرات واللقاءات مما ساهم في حفظ هذا التراث الثمين للأجيال القادمة.

ثقوب سوداء في الثوب الأبيض

وللأسف رغم إنجازاته الكبيرة تلك إلا أنه هرب وباع كل ما وجده وكل ما اشتراه من قطع اثرية الى الخارج وخاصة للمتحف البريطاني بلندن، مثل تمثال رأس رمسيس الثاني (تمثال ممنون الصغير) ومسلة كليوباترا، وتابوت سيتي الأول، كما حصد مجموعة كبيرة من الآثار لحساب القنصل الإنجليزي “هنري سولت” الذي كان يرعاه، وأيضا مجموعة أصغر منها لنفسه. والغريب أن بعض الآثار التي كشفها أو اشتراها بيع منها في البرازيل لصالح المتحف الوطني بـ”ريو دي جانيرو”، الذي دمره حريق رهيب في 2 سبتمبر 2018م.

لذا فبيلزوني يعتبر من أبرز المستكشفين في تاريخ مصر، حيث ساهم بشكل كبير في فهمنا للحضارة المصرية القديمة. وفتح الباب أمام العديد من المستكشفين والعلماء لدراسة هذه الحضارة العريقة. ومع ذلك، فقد انتُقد في بعض الأحيان بسبب الطرق التي كان يستخدمها في نقل الآثار، حيث كان يركز على الجانب التجاري أكثر من الجانب العلمي.

نهاية مأساوية

ومن عجائب القدر أن بعد اكتشافات بيلزوني المهمة في مصر، قرر التوجه إلى غرب أفريقيا لاستكشاف مناطق جديدة. ومع ذلك، لم يحالفه الحظ هذه المرة، حيث أصيب بمرض الزحار (الدوزونتاريا Dysentery) الذي انتشر في ذلك الوقت بسبب سوء الظروف الصحية وسوء التغذية أثناء الرحلات الاستكشافية، وتوفي في 3 ديسمبر 1823م في مدينة بنين، بنيجيريا، بعيدًا عن وطنه، عن عمر يناهز 45 عامًا.. ولقد تم تكريمه في مسقط رأسه بإيطاليا وأيَضا في المتحف البريطاني.

الدليل نيوز عشان البلد والناس

لتبقى على اطلاع دائم بآخر المستجدات والتطورات في جميع المجالات، ندعوك للانضمام إلى مجتمعنا.

انضم إلى مجتمع الدليل نيوز

استكشف أقسامنا الرئيسية:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights