حضارة وتاريخسلايدر

تهريب وتجارة المومياوات المصرية

(أشهر لصوص الآثار المصرية11)

كتب: د. قاسم زكى

أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة المنيا، عضو اتحاد الأثريين المصريين، وعضو اتحاد كتاب مصر

كان لحفظ الموتى تأثير عميق على الديانة المصرية القديمة، حيث كان التحنيط جزءًا لا يتجزأ من طقوسهم منذ الأسرة الثانية (حوالي 2800 قبل الميلاد)، لضمان العيش بشكل جيد في الحياة الآخرة. المومياء عبارة عن جسد محنط بطرق طبيعية أو اصطناعية للحفاظ على شكله. يعبر التحنيط المصري عن خبرة متميزة في علوم الطب والتشريح والكيمياء وغيرها، وكانت طرقه معقدة للغاية ومكلفة. ولوحظ في الفترة الأخيرة تزايد الطلب على المومياوات لأهداف الدراسة وإجراء الأبحاث الخاصة بعمليات التحنيط ودراسة الجينوم والسلالات البشرية.
المومياوات

تجارة وتهريب المومياوات المصرية عبر العصور وتأثيرها على التراث

التحنيط وإنتاج المومياوات: فن مصري قديم

إن الموميا المصرية ليست مجرد لفائف من قماش الكتان تلف بها الأجساد الميتة فقط، ولكنها طريقة لوجود بيوت دائمة للأرواح، وهذه طريقة تحايلية على الموت. وفي التحنيط كان يستخرج المخ من فتحة الأنف وتفرغ الأحشاء من البطن والصدر، وترك المصري القلب في مكانه اعتقادًا في أنه هو الذي سيشهد على صاحبه؛ وكان الجسم المفرغ ينقع في الملح ويجفف. وكان الجلد الجاف يعالج بخليط من الزيوت والراتنجات (أصماغ). بعدها تلف المومياء بعشرات الأمتار من قماش الكتان المغموس في الراتنجات لتصنع منها ملابس الميت في حياته الأخرى الأبدية. وكانت تتلى عليها التعاويذ وتمارس عليها الطقوس قبل الدفن.

وكانت تدفن الموميا في رمال الصحراء المترامية والجافة لامتصاص السوائل من الجسم وتجفيفه لحفظ الجلد والأظافر والشعر بعيدًا عن ضفتي النيل حيث الزراعة. وكان المصريون يدفنون في المقابر المشيدة. وقد تلاشت عملية التحنيط المصرية تدريجيًا في القرن الرابع الميلادي، عندما حكم الرومان مصر. وتوقف المصريون تمامًا عن صنع الموميا بين القرنين الرابع والسابع الميلاديين، عندما اعتنق العديد منهم المسيحية.

أرقام وحالات استرداد الموميا المهربة

من المقدر أنه على مدى فترة 3000 عام، تم تحنيط أكثر من 70 مليون مومياء في مصر. وحاليًا هناك  64 مجموعة من الموميا المصرية تعرض في متاحف 14 دولة حول العالم. وفي العام 2019م تمكنت الوحدة الأثرية بقرية البضائع بمطار القاهرة الدولي، من ضبط أجزاء لمومياوات داخل أحد الطرود أثناء محاولة تهريبها إلى خارج مصر. بعض الموميا الموجودة في المتاحف الأوروبية،

جرى بيعها أو تهريبها قبل قانون 117 لسنة 1983، إلا أن ما خرج منها بطريقة شرعية لا يمكن استرداده، وأنه حال إثبات أي قطعة أو مومياء خرجت قبل هذا التاريخ بطرق غير شرعية يمكن المطالبة بها، طبقًا لاتفاقية اليونسكو 1970م. فمثلاً وزارة الآثار المصرية استردت في عام 2015م أقدم هيكل عظمي من بلجيكا يسمى بـ”هيكل نزلة خاطر” عثرت عليه البعثة العلمية البلجيكية عام 1980م بنزلة خاطر بسوهاج، وهو لأقدم إنسان عاش في مصر، كما استردت إحدى الموميا من الولايات المتحدة الأمريكية عام 2003م.

استخدامات مختلفة وغريبة للمومياوات المصرية

كان استخدام الموميا في الطب معروفًا منذ القدم وقد استخدمه العرب في العلاج منذ القرن الحادي عشر الميلادي باستخدام القطران الموجود في تجاويف الجثث، لذا انتشرت تلك التجارة الرابحة وأقبل عليها الأوروبيون خلال الستة قرون التالية لذلك.

الموميا في الطب والتجارة المربحة

وفي القرن السادس عشر الميلادي كانت الموميا ومستخرجاتها تستخدم ضمن العقاقير الطبية وكان القار (القطران) الشرقي مشهورًا في علاج الجروح والكدمات والغثيان والكسور وغيرها في أوروبا، وكان هذا القار يشبه ما كان يستخدمه المصريون القدماء في تحنيط الجثث، وكان يوضع في تجاويف الموميا. وحين كان يشح القار في الأسواق كانوا يستخدمون لحوم الموميا نفسها في العلاج. وانتشرت تجارة الموميا من مصر إلى أوروبا وكانت تدر ربحًا خياليًا وذلك من أجل العلاج. لذا استمرت تلك التجارة (غير الشرعية) حتى القرن التاسع عشر وأتت فترة فرضت الحكومات المصرية الضرائب على تلك التجارة وفيما بعد منعت تصديرها إلى الخارج. ومن المفارقات أن تلك التجارة استمرت حتى سبعينات القرن العشرين، فكانت هناك سوق منظمة للمومياوات وإن كانت محدودة وتستعمل في السحر والشعوذة.

وفي العصور الوسطى استمر وشاع الاعتقاد أن الموميا تمتلك خصائص علاجية؛ ونتيجة لذلك أصبح من الشائع طحن الموميا المصرية إلى مسحوق لبيعها واستخدامها كدواء لاحتوائها على القار (البيتومين). وعندما أصبحت الموميا الفعلية غير متوفرة، تم استبدالها بجثث مجففة بالشمس للمجرمين والعبيد وأمثالهم من قبل التجار المخادعين. وقيل إن الموميا المصرية لها الكثير من الخصائص العلاجية مثل علاج الكدمات ومنع النزيف، بل اعتقد البعض أن عظم الموميا تعمل على زيادة القدرة الجنسية.

“مومياء بنية” والفنانون

كما استفاد الفنانون من الموميا المصرية. فهناك صبغة بنية اللون تُعرف باسم “مومياء بنية” عن طريق طحن الموميا المصرية البشرية والحيوانية. وكانت الأكثر شيوعًا في القرن السابع عشر ولكن تم إيقافه في أوائل القرن التاسع عشر عندما أصبح تكوينه معروفًا بشكل عام للفنانين الذين استبدلوا الصباغ المذكور بمزيج مختلف تمامًا.

أغرب استخدامات الموميا في العصر الحديث

خلال القرن التاسع عشر وبعد اكتشاف المقابر والتحف الأولى في مصر، كان علم المصريات موضة كبيرة في أوروبا. ولم يعد الناس يتناولون الموميا لعلاج الأمراض. لكن كان الأرستقراطيون الأوروبيون يسلون أنفسهم أحيانًا عن طريق شراء الموميا وفكها وعقد جلسات المشاهدة. فكان فتح الموميا المصرية مشهدًا شائعًا في بريطانيا في منتصف القرن التاسع عشر؛ وقد دمرت جلسات الفتح هذه مئات الموميا؛ ذلك لأن التعرض للهواء تسبب في تفككها.

ومن أغرب الاستخدامات للمومياوات عرضها كديكور في منازل الشخصيات البارزة، سواء داخل المنزل أو المحلات التجارية والمراسم لجذب الزوار.

الموميا كوقود وسماد وصناعة ورق

والأغرب هو توثيق استخدام الموميا كوقود للقاطرات؛ بل خلال الحرب الأهلية الأمريكية قيل إن أغطية المومياء كانت تستخدم لتصنيع الورق. وعلى الرغم من حقيقة أن الموميا لم تحصل على الاحترام في كثير من الأحيان في القرن التاسع عشر، فلا يوجد دليل دامغ على بعض هذه الشائعات. وحسب ما ذكرت مجلة “ناشيونال جيوجرافي” في عددها الصادر في نوفمبر 2009م، أنه جرى نقل نحو 180 ألفًا من مومياوات القطط عن طريق السفن إلى إنجلترا عام 1888م، حيث استخدمت هذه الموميا بعد ذلك كأسمدة في الحقول.

تقديرات متفاوتة لعدد الموميا المهربة

واتجه المغامرون الأوائل إلى سرقة الموميا التي وجدوها أمرًا متاحًا وسهلاً، فكانت تُعرض في الأسواق، وأحصى بعض العلماء ومنهم «صموئيل بيرش» الأمين السابق للقسم الشرقي بالمتحف البريطاني عددها بـ ٤٢ مليون مومياء، خلال ٢٧٠٠ سنة، من التاريخ المصري، وعلماء آخرون قدروا عددها ٧٣١ مليونًا، فتاريخ مصر أقدم من ذلك. ومن الثابت أنه كان يخرج من مصر قرابة عشرة آلاف طن سنويًا من الموميا (خاصة خلال القرن الثامن عشر) إلى الخارج وأغلبها إلى بريطانيا، واستخدموها في العلاج وأيضًا (للأسف) في تخصيب الأراضي الزراعية كسماد وزيادة إنتاجيتها، بل قيل إنه تم استخدام آلاف الموميا كمصدر لوقود تسيير السفن؛ كما استخدمت الأكفان والكتان التي تلف بها الموميا في صناعة الورق.

مومياوات ملوك مصر العظام: كنوز ما زالت تُكتشف

ربما يتساءل البعض عن عدد الموميا الملكية الفرعونية التي تم العثور عليها في المجمل. فتاريخيًا كان هناك حوالي 170 ملكًا فرعونًا من 30 أسرة ملكية، ولكن في المجمل تم العثور على حوالي 62 مومياء ملكية فرعونية فقط. بعضهم لم يكن موجودًا حتى في وادي الملوك، وبعضهم خارج المقبرة العظيمة. وحتى يومنا هذا مازال اكتشاف مومياوات جديدة مستمرًا، فقد قال علماء الآثار إنهم عثروا (2023م) في سقارة على مومياء مغطاة بأوراق الذهب داخل تابوت لم يُفتح منذ 4300 عام. ويُعتقد أن المومياء، هي بقايا رجل يُدعى “هيكاشيبس”، هي واحدة من أقدم وأكمل الجثث غير الملكية التي عُثر عليها في مصر على الإطلاق.

الدليل نيوز عشان البلد والناس

لتبقى على اطلاع دائم بآخر المستجدات والتطورات في جميع المجالات، ندعوك للانضمام إلى مجتمعنا.

تواصل معنا عبر منصاتنا:

استكشف أقسامنا الرئيسية:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights