مصر تصنع لحظة السلام في زمن الحرب: قراءة في اتفاق غزة ورسائل السيسي للعالم

بقلم/ د. إبراهيم درويش
في لحظة نادرة من تاريخ الشرق الأوسط، تحولت شرم الشيخ إلى عاصمة للسلام بدلًا من أن تبقى شاهدة على حرب أنهكت المنطقة. فقد أعلن من أرضها عن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بعد عامين من القتال والمعاناة الإنسانية، بجهود مصرية خالصة أثبتت أن القاهرة ما زالت حجر الزاوية في استقرار المنطقة وصوت العقل في زمن الانقسام.
خلفية الاتفاق: من الحرب إلى طاولة المفاوضات
جاء الاتفاق ثمرة تحرك دبلوماسي ماراثوني قادته مصر منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، حين اشتعلت غزة بالنار والدمار، وسقط آلاف المدنيين بين قتيل وجريح، وواجه العالم واحدة من أكثر الأزمات الإنسانية قسوة. ومع تصاعد المخاطر، كانت القاهرة تتحرك في صمت، تجمع الخيوط المتشابكة، وتبني الجسور بين الأطراف المتنازعة، حتى جاء الثالث عشر من أكتوبر 2025 ليشهد توقيع الاتفاق التاريخي في قمة شرم الشيخ للسلام، بحضور عدد من القادة العرب والدوليين.
رسائل السيسي: مصر الفاعلة لا المحايدة
في كلمته خلال القمة، أكد الرئيس عبدالفتاح السيسي أن ما تحقق ليس نهاية الطريق بل بدايته، قائلاً: “هذه لحظة فاصلة تُغلق صفحة أليمة وتفتح بابًا جديدًا للمستقبل.” جاءت رسائل السيسي واضحة ومباشرة، لترسم معالم الدور المصري في زمن الاضطراب العالمي.
كانت الرسالة الأولى أن مصر ليست وسيطًا محايدًا بل طرفًا فاعلًا ومسؤولًا. فهي التي قادت الجهود ونسّقت مع كل الأطراف — من واشنطن وتل أبيب إلى الدوحة ورام الله — من أجل وقف نزيف الدم وتهيئة الأرضية للحوار. بهذا الموقف، أعادت القاهرة التأكيد على أنها لا تعمل لحساب أحد، بل لحساب المنطقة واستقرارها، انطلاقًا من إدراكها العميق بأن القضية الفلسطينية قضية أمن قومي عربي لا مجرد ملف سياسي.
السلام والإنسانية في معادلة واحدة
أما الرسالة الثانية، فكانت إنسانية بامتياز. شدد السيسي على أن السلام ليس وثيقة سياسية فقط، بل وعدٌ بالحياة الكريمة للفلسطينيين. دعا إلى ضمان دخول المساعدات الإنسانية، وبدء إعادة إعمار غزة، ورفع الحصار عن أهلها، مؤكدًا أن “الإنسان الفلسطيني هو جوهر أي تسوية حقيقية”. بهذا الطرح، نقلت مصر القضية من ساحة الصراع العسكري إلى ساحة الضمير الإنساني، لتذكّر العالم بأن ما يحدث في غزة ليس مجرد نزاع حدود، بل معركة كرامة وعدالة.
السلام شجاعة لا ضعف
وفي رسالته الثالثة، أطلق الرئيس السيسي عبارة لخصت فلسفة مصر في التعامل مع الأزمات: “السلام ليس ضعفًا بل هو قمة القوة، والقدرة على إنهاء الحرب أعظم من القدرة على إشعالها.” تلك العبارة دوّت في وسائل الإعلام العالمية، لأنها عبّرت عن موقف مصر المتوازن بين الواقعية السياسية والمبادئ الأخلاقية. فمصر لا تبحث عن انتصار لطرف على حساب آخر، بل عن انتصار للإنسان ولمنطق الحياة.
ردّ القاهرة على المشككين في دورها
لم يخلُ الخطاب من رسالة واضحة إلى المشككين في الدور المصري، سواء في الداخل أو الخارج. فقد واجهت مصر خلال الشهور الماضية حملات تشكيك ومحاولات لتقزيم دورها أو اتهامها بالانحياز. إلا أن الواقع أثبت عكس ذلك. فبينما اكتفت بعض القوى بالشعارات أو البيانات، كانت القاهرة هي من تعمل ليل نهار، تنسق وتستضيف وتتحمل الضغوط الدولية. قال السيسي في كلمته بوضوح: “مصر تعمل من أجل حقن الدماء لا من أجل المصالح الضيقة.” بهذه الجملة، أسكت كل الأصوات التي حاولت النيل من مصداقية الدور المصري، وأعاد التأكيد أن القاهرة لا تزايد على أحد، بل تؤدي واجبها الوطني والعروبي بأمانة ومسؤولية.
نجاح دبلوماسي يُعيد لمصر مكانتها التاريخية
لقد نجحت مصر فيما فشل فيه الآخرون: جمع الخصوم على طاولة واحدة، وتحويل الصراع إلى حوار. لم يكن ذلك محض صدفة، بل نتيجة رصيد من الثقة تراكم عبر عقود بين مصر وكل الأطراف، وثبات في المواقف جعلها وسيطًا مقبولًا ومحترمًا في آن واحد. يؤكد مراقبون أن هذا النجاح أعاد لمصر مكانتها كـ”قلب الدبلوماسية العربية” ومحور التوازن في الشرق الأوسط، بعد أن أثبتت أن صوت العقل لا يزال ممكنًا وسط صخب المدافع.
التحدي القادم: من الورق إلى الواقع
لكنّ الاتفاق لا يعني نهاية الطريق، بل بدايته. فالتحديات التي تواجه التنفيذ كبيرة، من التزام إسرائيل ببنود الاتفاق، إلى ضبط الأوضاع داخل غزة، وتأمين التمويل الدولي لإعادة الإعمار. هنا يأتي الدور المصري مجددًا كضامن ومتابع وموازن، مستفيدًا من شبكة علاقاته الممتدة مع جميع الأطراف. فمصر تدرك أن السلام الحقيقي لا يُقاس بالتوقيع، بل بالقدرة على ترجمة الاتفاق إلى واقع يلمسه الناس.
إعادة الحياة إلى غزة
بعد وقف الحرب، يبدأ التحدي الأكبر: إعادة الحياة إلى غزة. إنها مسؤولية دولية وإنسانية في المقام الأول، وقد وضعت مصر العالم أمام اختبار حقيقي حين قال السيسي: “من يريد أن يشارك في السلام، فعليه أن يشارك في البناء.” فالمعركة الآن لم تعد بالسلاح، بل بالجهد والتنمية والأمل. على المجتمع الدولي أن يثبت صدق نواياه، وأن يدعم إعادة الإعمار ورفع المعاناة عن أكثر من مليوني إنسان حوصروا بين الحرب والحصار.
مصر والقيادة الأخلاقية للمنطقة
ما فعلته القاهرة في هذه الأزمة تجاوز حدود السياسة إلى قيادة أخلاقية وإنسانية. فمصر التي خاضت الحروب من أجل العدل والسلام، عادت لتؤكد أن دورها لا يُقاس بالنفوذ بل بالمسؤولية. لقد اختارت أن تكون بوابة الخلاص، لا طرفًا في صراع عبثي. ومع توقيع اتفاق غزة، استعادت مصر موقعها كضامن لتوازن المنطقة، ورسخت قناعتها الثابتة بأن القضية الفلسطينية ليست قضية حدود، بل قضية وجود وكرامة.
ختاماً: مصر تُعيد تعريف القوة
إن ما جرى في شرم الشيخ لم يكن مجرد توقيع على اتفاق، بل إعادة تعريفٍ للقوة والمعنى الحقيقي للقيادة. فالقاهرة، التي رفضت الانجرار وراء المزايدات أو الانفعال، اختارت أن تبني لا أن تهدم، وأن تصنع الأمل حين غابت الرؤية عن الجميع. لقد أثبتت التجربة أن مصر لا تبحث عن مجدٍ سياسي عابر، بل عن سلامٍ دائمٍ يضمن أمن الجميع. وبينما ينشغل العالم بالتحليل والتقييم، تواصل مصر مهمتها الأصعب: تحويل الورق إلى واقع، والحرب إلى سلام، واليأس إلى أمل. وهكذا، تبقى مصر — كما وصفها الرئيس السيسي — “صوت العقل والضمير في زمنٍ يعلو فيه صوت السلاح”…صوت لا يعلو عليه سوى صوت الحياة.
الدليل نيوز عشان البلد والناس
لتبقى على اطلاع دائم بآخر المستجدات والتطورات في جميع المجالات، ندعوك للانضمام إلى مجتمعنا.