
بقلم : ا.د / ابراهيم حسينى درويش
في زمنٍ تختلط فيه الأصوات، وتضيع فيه الحقائق بين صخب الإعلام وأصابع الفتنة، تبقى مصر ثابتة كالأهرام، راسخة كالنيل، شامخة لا تنحني إلا لخالقها، تكتب صفحات العزة بمداد من دماء أبنائها وتاريخها المجيد. من يعرف مصر حق المعرفة، يدرك أنها ليست مجرد وطن، بل رسالة خالدة في وجدان الأمة، ودرع منيع للأمة العربية والإسلامية، وقلبها النابض بالحياة والكرامة.
منذ عام 1948، كانت مصر ولا تزال، أول من يهرع نصرةً لفلسطين وأهلها. لم تتاجر مصر يومًا بالقضية، ولم ترفع شعارات زائفة، بل قدّمت الدماء والرجال والمال والسلاح، واحتضنت المقاومة الفلسطينية في أوقاتٍ كانت فيها أبواب العرب تُغلق، وقلوب بعضهم تتقاعس. عبرت الجيوش المصرية حدود الخطر غير مرّة، ودافعت عن غزة كما تدافع عن الإسماعيلية، واحتضنت أبناءها كما تحتضن أبناءها في الداخل. وما زالت، رغم الظروف والعقبات، هي السند الحقيقي لأهلها في غزة، تمدّ لهم يد العون، وتفتح معبرها الإنساني، وتداوي جراحهم رغم الجراح.
لقد أثبتت مصر على مدار عقودٍ طويلة أن مواقفها لا تتغير بتغيّر المصالح، وأن سياستها الخارجية ليست انفعالًا لحظة، بل عقيدة دولةٍ تعرف معنى الدور والمسؤولية. فحين اشتدت الحروب وتكاثرت الفتن، وقفت مصر – كما هي دائمًا – في وجه العواصف، ثابتةً على مبدأ واحد: أن الدم الفلسطيني غالٍ، وأن أمن غزة من أمن مصر، وأن السلام لا يكون إلا بعدلٍ يحفظ الحقوق ويصون الكرامة.
وفي خضمّ احتفالات نصر أكتوبر المجيد، الذي أعاد للأمة العربية كرامتها، تجتمع على أرض مصر – أرض السلام – الوفود التي طالما خاصمتها بالأمس، وناصبتها العداء، وسعت لتشويه صورتها في المحافل. جاؤوا اليوم إلى شرم الشيخ، تلك الجوهرة التي أصبحت عنوانًا للأمان، يطلبون السلام تحت رايتها، وفي ضيافة قيادتها الحكيمة، بعد أن أدركوا أن لا حلّ لقضايا المنطقة دون مصر، ولا استقرار دون وساطتها، ولا ثقة دون بصمتها.
كم هي عظيمة هذه الأرض التي تتسع حتى لمن أساء إليها، وتمد يدها حتى لمن حاولوا طعنها في الظهر! فمصر لا تعرف الحقد، لأنها منشغلة بالبناء لا بالانتقام، ولأنها تؤمن أن العظمة تُقاس بقدرة الإنسان على التسامح لا على الانتقام. لقد علمت الدنيا كلها أن الكرامة لا تُشترى، وأن السيادة لا تُوهب، وأن من أراد المجد فليتعلم من مصر كيف يُصنع.
وما كانت “حماس” لتتحدث أو تظهر أو تفاوض اليوم، لولا الحماية المصرية والدعم المصري الصادق، الذي لم يسعَ إلى مكسبٍ أو دعاية، بل إلى حماية الدم الفلسطيني ومنع المزيد من الدمار. كانت مصر وما زالت الجدار الأخير الذي يمنع الانهيار، والصوت العاقل في زمنٍ جنّ فيه المتطرفون، والموقف الثابت في بحرٍ مضطرب من المصالح والأهواء.
فليعلم كل مصري أن له أن يعتز، وأن يرفع رأسه عاليًا بين الأمم. فمصر لم تكن في يومٍ تابعًا، ولم تُدار من الخارج، ولم تركع لغير الله. هي التي تقود لا تُقاد، وتُعلّم لا تُتعلّم، وتبني حين يهدم غيرها. وفي كل أزمةٍ تمر بالعالم العربي، تُثبت مصر أنها الأم التي تحنو ولا تفرّط، والقلب الذي ينبض رغم الأوجاع، والعقل الذي يُفكّر حين يضيع المنطق من حوله.
أما الأبواق المسمومة التي تهاجمها من وراء الشاشات، أو تلك التي تقتات على بثّ الشك والضغينة، فلتصمت. فالتاريخ لا يُكتب بالشتائم، ولا تُقاس الأوطان بمزاعم من باعوا ضمائرهم، ووقفوا في صفّ أعداء أوطانهم. مصر أكبر من حقدهم، وأطهر من أكاذيبهم، وأقدم من مؤامراتهم. ومن خان وطنه مرة، لن يعرف طعم الانتماء أبدًا، ومن تنكّر لفضل مصر، فقد تنكّر للعروبة ذاتها.
إن ما قدّمته مصر للأمة لا يُقاس بحسابات السياسة ولا بموازنات المال، بل بحجم التضحية والإخلاص. هي التي احتضنت القضايا العربية في كل العصور، من المحيط إلى الخليج، ودفعت ثمن مواقفها غاليًا من دماء أبنائها واقتصادها وأمنها، لكنها لم تتراجع يومًا عن واجبها.
فيا أبناء مصر، اعتزوا ببلدكم، وافتخروا بتاريخها، وكونوا على قدر ما ورثتم من أمجاد. هذه الأرض التي أنجبت خالد بن الوليد في القتال، وأحمد عرابي في الكبرياء، وجمال عبد الناصر في العروبة، وأنور السادات في السلام، تستحق أن نكون لها لا عليها، وأن نصونها كما صانتنا قرونًا.
ولتخرس ألسنة المشككين والخونة، ولتعلم “جماعة الشر” أن مصر لا تُباع ولا تُشترى، ولا تُدار من الخارج، بل تُقاد بإرادة أبنائها، وتُحكم بحكمة رجالها ووعي شعبها. ستبقى مصر – رغم كيد الكائدين – واحة سلامٍ وأمن، تنشر النور في زمن الظلام، وتبني حين يهدم الآخرون، وتمنح حين يبخل غيرها.
وفي النهاية نقولها كما قالها التاريخ مرارًا:
من أراد العزة فليلزم باب مصر، ومن أراد النور فليتبع دربها، ومن أراد أن يعرف معنى الكبرياء والكرامة، فليقرأ تاريخها.
سلامٌ على مصر في كل زمان، وسلامٌ على جيشها وشعبها، وسلامٌ على من أحبها وعمل لأجلها، فهي باقية ما بقيت الشمس تشرق من الشرق.
تحيا مصر… وتحيا كرامة الأمة معها.