دنيا ودين

من لا يتألم لا يتعلم… ومن لا يخسر لا يعرف قيمة ما يملك

كتب: ابراهيم درويش

في دروب الحياة، لا يأتي النضج من الراحة، ولا تُصاغ الحكمة في أوقات الرخاء، بل تتولد من رحم الألم، وتُستخرج من عمق الخسارة. فالألم مدرسة لا تُدرّس في الجامعات، والخسارة معلم لا يمنح شهادات، لكنها تصنع في الإنسان ما لا تصنعه السنوات الطوال من الدعة والرخاء. ومن لا يتألم لا يتعلم، ومن لا يخسر لا يعرف قيمة ما يملك؛ لأن التجارب القاسية تُهذّب النفس، وتُوقظ القلب، وتُعلّم الإنسان أن النعم لا تُدرك إلا حين تُفقد، وأن الراحة لا تُقدّر إلا بعد تعبٍ طويل.

أولًا: الألم.. مدرسة الوعي والنضج

يقول الله تعالى في كتابه العزيز:
“وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ” (البقرة: 155).
فالألم والابتلاء سنة من سنن الله في عباده، لا لِيُعذّبهم، بل لِيُربّيهم ويُطهّرهم.
فمن الألم تتولد القوة، ومن الجرح ينبت الصبر، ومن الدمع يخرج الإيمان صافيًا نقيًا.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:”ما ابتلاك إلا ليطهّرك، وما أوجعك إلا ليوقظك، وما حرَمك إلا ليمنحك.”
فكل ألمٍ يُصيب القلب أو الجسد هو نداء خفي من الله ليُعيد الإنسان إلى ذاته، ويُذكّره بضعفه، ويُنبّهه إلى أن وراء الألم حكمةً لا تُدركها العيون الباكية، بل القلوب الراضية.

ثانيًا: الخسارة… بوابة الوعي بقيمة النعم

من لم يخسر لم يعرف قيمة ما كان يملك، ومن لم يُحرم لم يعرف قيمة العطاء.
فالخسارة تُعيد ترتيب القيم في داخلنا، وتُعلّمنا أن ما كنا نظنه عاديًا هو في الحقيقة نعمة عظيمة.

يقول النبي ﷺ: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ.” (رواه البخاري).
كثيرون لا يشعرون بعظمة النعم إلا بعد زوالها؛ لا يعرفون قيمة العافية إلا حين يمرضون، ولا قيمة الأحبة إلا حين يفقدونهم، ولا طعم الأمن إلا حين يذوقون الخوف.
فالخسارة ليست شرًا مطلقًا، بل هي يقظة تُعيد للإنسان بصره وبصيرته، ليعرف كيف يحمد الله على ما بقي، لا أن يتحسر على ما مضى.

ثالثًا: الألم والخسارة طريق التهذيب الروحي

إن أعظم النفوس هم الذين مرّوا بالمحن وخرجوا منها أصلب وأصفى….تأمل نبي الله أيوب عليه السلام، الذي ضُرب المثل بصبره على البلاء، فخسر ماله وأهله وصحته، لكنه لم يخسر إيمانه. قال تعالى على لسانه: “أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ” (الأنبياء: 83).
لم يقل “يا رب لماذا أنا؟” بل قال “أنت أرحم الراحمين”، فاستحق أن يُرفع ذكره في القرآن إلى يوم القيامة، وليكون مثالًا لكل من يُصاب في حياته.
وهكذا يُعلّمنا الألم أن نقترب من الله، وأن نرى في المحن منحًا، وفي الخسائر فرصًا للعودة إلى الطريق المستقيم.
قال أحد الحكماء: “الابتلاء طريق لا يسلكه إلا العظماء، لأن الله إذا أحب عبدًا ابتلاه، ليُسمع شكواه، ويُطهر قلبه من شوائب الدنيا.”

رابعًا: دروس من واقع الحياة

في حياتنا اليومية نرى من يسقط في تجربة قاسية، فيخرج منها إنسانًا مختلفًا.
من فقد عمله أدرك قيمة الرزق.
ومن خسر صديقه تعلّم أن الوفاء لا يُشترى.ومن مرض علم قيمة الصحة.ومن عاش الوحدة أدرك قيمة الأنس.
هذه الدروس لا تُشترى بالمال، ولا تُتعلم من الكتب، بل تُكتسب بالوجع والدموع.
وكما قال الشاعر: قد يُنبت الألم زهرًا في القلبِ…
ويُعلّم الصبرَ معنى الحبِّ والربِّ.

خامسًا: بين الألم واليأس… شعرة الأمل

ليس الألم غاية، بل وسيلة لليقظة.
فالله لا يبتلي ليُحبط، بل ليُصلح ويُقوّي.
قال تعالى: “فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا” (الشرح: 5-6).
وهذه الآية تكرارها ليس عبثًا، بل تأكيد على أن اليسر ملازم للعسر، وأن كل دمعة تسبق ابتسامة، وكل غروب يتبعه فجر جديد.
فليكن الألم بوابتك إلى القوة، لا إلى الانكسار.
ولْتكن الخسارة جسرًا إلى الرضا، لا إلى الحزن الدائم.
واعلم أن الله لا يختار لعبده إلا ما هو خير له، وإن لم يدرك الحكمة في حينها.
قال النبي ﷺ:”عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له.” (رواه مسلم).

سادسًا: من التجارب تولد الإنسانية

الناس الذين مرّوا بالألم أكثر رحمةً بالآخرين، وأكثر فهمًا للضعفاء.
فالخسارة تُكسر في داخلنا غرور الامتلاك، وتزرع مكانه تواضعًا ورحمة.
وحين نتألم، نتعلم أن لا نحكم على أحدٍ من مظهره، لأننا لا نعرف كم خسر، ولا كم صبر، ولا كم بكى ليلًا ليبتسم نهارًا.
قالت الكاتبة الأمريكية هيلين كيلر، التي فقدت بصرها وسمعها:
“الظلام الذي عشته علّمني أن أقدّر النور، والصمت الذي غمر حياتي علّمني قيمة الكلمة.”
وهذا المعنى هو ما أراده الله لعباده المؤمنين؛ أن يتعلموا من النقص تمام النعمة، ومن الشدة جمال اللين، ومن الفقد روعة التقدير.

الخاتمة:

من لا يتألم لا يتعلم، ومن لا يخسر لا يعرف قيمة ما يملك…
عبارة تختصر حكمة الحياة كلها.
فالألم ليس عدوًا يجب الهرب منه، بل أستاذ يجب الإصغاء إليه. والخسارة ليست نهاية الطريق، بل بدايته نحو وعيٍ جديدٍ، يُثمر تقديرًا للنعم، وامتنانًا للخالق، وصبرًا جميلًا لا يعرف الجزع.
فلنتعلم أن نحمد الله على كل حال، وأن نرى في كل ألم رسالة، وفي كل خسارة نعمة خفية.
فمن رحم المعاناة يولد النور، ومن بين الدموع تُكتب أعظم الدروس.
وصدق القائل: “من عرف طعم الألم، لم يُفرط في لذة النعم.”
اللهم علّمنا من آلامنا، وازرع في خسائرنا حكمة، واجعلنا من الذين إذا ابتُلو صبروا، وإذا أُعطوا شكروا، وإذا أذنبوا استغفروا.

الدليل نيوز عشان البلد والناس

لتبقى على اطلاع دائم بآخر المستجدات والتطورات في جميع المجالات، ندعوك للانضمام إلى مجتمعنا.

تواصل معنا عبر منصاتنا:

استكشف أقسامنا الرئيسية:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights