قرى بلا شباب.. أين اختفى جيل المستقبل؟

تحقيق: منصور عبد المنعم
في مساء قروي هادئ، تبدو الشوارع خالية إلا من خطوات ثقيلة لكبار السن، يتكئون على عُصيهم ويمضون في طرقات كانت يومًا تضج بصوت الدراجات النارية، وضحكات الشباب، وحيوية المقاهي الصغيرة. اليوم، صار المشهد مختلفًا؛ شباب القرية اختفوا تقريبًا، تاركين خلفهم مقاعد خاوية وحقولًا بلا أيدٍ قوية. ظاهرة تُثير القلق وتستحق التوقف أمامها: أين ذهب شباب القرى؟ وهل تتحول القرى المصرية إلى مجتمعات رمادية بلا نبض؟
الهجرة الداخلية.. شباب القرى يغزون المدن
تُظهر جولاتنا في عدد من القرى بالدلتا والصعيد أن غياب الشباب لم يأتِ صدفة؛ فالأغلبية خرجت إلى المدن الكبرى بحثًا عن فرص عمل أفضل.
محمد، 27 عامًا، يقول:
“لو فضلت في القرية مش هلاقي شغل. هنا المستقبل محدود، عشان كده نزلت القاهرة أشتغل في ورشة نجارة.”
قصته تتكرر مع آلاف آخرين؛ يتركون بيوتهم طمعًا في حياة أفضل، لكنهم يتركون خلفهم فراغًا اجتماعيًا واضحًا لا يملؤه غير كبار السن والنساء.
الهجرة الخارجية.. حلم الثراء السريع
لم تعد الهجرة للخليج أو أوروبا خيارًا صعبًا كما كان قبل عامين.
تسفير العمالة أصبح تجارة رائجة، وشباب القرى وجدوا في السفر بابًا للرزق السريع. لكن الثمن مُرتفع؛ أسر كاملة تعيش اليوم على انتظار مكالمة صوتية من شاب يعمل في غربة بعيدة.
الحاج جابر، والد شاب سافر لإيطاليا منذ عام، يقول:
“مافيش بيت هنا إلا فيه شاب مسافر.. والبلد فاضية منهم.”
العمل عبر الإنترنت.. شباب حاضرون لكن بلا حضور
انتقلت شريحة من الشباب إلى عالم العمل الرقمي، يعيشون خلف شاشات هواتفهم وأجهزتهم.
تراهم في البيوت، لكنهم لا يشاركون في الحياة القروية، لا يذهبون إلى الحقول، ولا يجلسون على المقاهي، ولا يختلطون بالمجتمع كما كان يحدث قبل سنوات.
سامح، 24 عامًا، يعمل في التسويق الإلكتروني، يؤكد:
“شغلي كله أونلاين. مفيش حاجة بتربطني بالقرية إلا النوم والأكل.”
وجودهم الجسدي لا يلغي غيابهم الاجتماعي.
تداعيات خطيرة.. القرى تفقد عمودها الفقري
غياب الشباب لم يمرّ دون آثار واضحة، فعدد من القرى يعاني اليوم من:
تراجع الإنتاج الزراعي
انخفاض أعداد العمالة الشابة أدّى إلى تراجع جودة وكميات المحاصيل.
شيخوخة المجتمع الريفي
القرية أصبحت تعتمد على كبار السن، ما يجعلها أقل قدرة على التطور.
توقف المشروعات الصغيرة
ورش النجارة والحدادة والطوب والبلاط أغلقت أبوابها لعدم وجود شباب يديرها.
ضعف المشاركة الاجتماعية والسياسية
المناسبات، الاجتماعات، والجلسات القروية أصبحت تعتمد على كبار السن فقط.
شهادات من قلب الحكاية
أم فقدت أبناءها الثلاثة لصالح الهجرة
أم نادر، امرأة خمسينية، تقول بصوت يملؤه الحنين:
“ولادي الثلاثة سافروا للخليج.. البيت بقى فاضي، وأنا اللي بشيل كل حاجة.”
عجوز يحرث الأرض وحده
الحاج عبدالعاطي، 70 عامًا، يزرع نصف فدان وحده بعدما سافر ابناه إلى السعودية:
“لو كان الشباب موجود، كان الحال اتغير.. الأرض محتاجة عزيمة الشباب.”
وجهة نظر الخبراء
يقول الدكتور حسن عبدالمقصود، أستاذ علم الاجتماع الريفي:
“غياب الشباب أخطر ظاهرة تهدد الريف المصري، لأنها تغيّر البنية الاجتماعية وتؤثر على التنمية.”
أما الخبير الاقتصادي المهندس علاء الفولي فيؤكد:
“الحل يبدأ من توفير فرص عمل حقيقية داخل القرى، وتحويلها إلى مراكز إنتاج لا طاردة للسكان.”
وماذا عن الحلول؟
مشروعات صغيرة ممولة للشباب داخل القرى
تشمل الصناعات الغذائية والمنتجات الزراعية.
دعم التصنيع الزراعي
لتحويل المحصول الخام إلى منتج مُصنّع يدرّ ربحًا أعلى.
إنشاء مراكز تدريب مهنية رقمية
لتأهيل الشباب لسوق العمل، بدل من تهميشهم داخل البيوت.
العودة إلى فكرة “القرية المنتجة”
كما كان يحدث في السبعينيات، حيث لكل قرية نشاط رئيسي يغذي سوقًا معينًا.
ريف بلا شباب، وطن بلا مستقبل؟
القرى هي الجذر الأول للمجتمع المصري، ولطالما خرج منها العلماء والعمال والفلاحون الذين بنوا هذا الوطن.
لكن استمرار نزيف الشباب قد يجعلها بلا روح، ويهدد مستقبلها ومستقبل البلاد كلها.
الآن، بات السؤال ملحًا: هل نستطيع إعادة الشباب إلى قراهم؟
أم سنكتفي بمشاهدة الريف يتحوّل — يومًا بعد يوم — إلى ذاكرة قديمة لا تعود؟



