
بقلم: د. قاسم زكي 
أستاذ الوراثة المتفرغ بكلية الزراعة – جامعة المنيا، مصر، عضو اتحاد كتاب مصر، وعضو اتحاد الآثاريين المصريين، وعضو الرابطة العربية للإعلاميين العلميين
منذ أن أدرك العالم قيمة الآثار المصرية وأهميتها التراثية والمادية، بدأت عمليات نهبها وبيعها وتهريبها. وفي المقابل، حاولت الحكومات المصرية منذ عهد محمد علي باشا عام 1835م سنّ القوانين واللوائح التي تنظم التنقيب والتجارة، لكنها لم تفلح دائمًا في وقف هذا النزيف التراثي. إذ إن بعض هذه القوانين، خصوصًا ما قبل عام 1983م، لم تمنع بيع وشراء الآثار بل شرعنت ما يمكن اعتباره “سرقات مشروعة”.
كان القانون رقم 117 لسنة 1983، نقطة تحوّل في تنظيم حيازة وتجارة الآثار، حيث نص بوضوح على تجريم البيع والشراء دون ترخيص، واعتبار الآثار ملكًا عامًا لا يجوز التصرف فيها. أما ما قبله، فقد سمح لعائلات معينة بتأسيس ثروات من القطع الآثرية، قدرت في بعض التقديرات بنحو 60 ألف قطعة آثرية لا تزال غير مصادرة حتى اليوم.
تجار مصر الكبار: من التصريح إلى الهيمنة
أول من حصل على رخصة رسمية لبيع الآثارفي مصر كان التاجر “حفناوي إسماعيل الشاعر” من نزلة السمان بالجيزة، الذي حصل على الترخيص رقم 1 في ديسمبر 1963م، لبيع الآثار”المكررة” بشكل قانوني حتى عام 1983م، حين صدر قرار حظر البيع نهائيًا.
لكن أبرز الأسماء في هذا المجال يبقى “موريس نحمان”، التاجر اليهودي المصري الذي لُقّب بـ”أسد القاهرة”، وكان من أعلام تجارة الآثارفي القرن العشرين. بدأ عمله المصرفي في بنك Crédit Foncier Égyptien، ثم تحول إلى التجارة في الآثار منذ عام 1890م. امتلك معرضًا فاخرًا وسط القاهرة، وجمع علاقات متينة مع كبار الأثريين الأوروبيين، من أبرزهم البلجيكي “جان كابارت”، الذي وصفه بـ”أعظم تاجر آثار مصرية في العالم”.
موريس نحمان لم يكن مجرد تاجر، بل جامع مقتنيات آثرية ضخمة، صدّر منها إلى متاحف عالمية مثل اللوفر والمتحف المصري، وكان يصدر فواتير رسمية لما يبيعه، ما أكسبه احترامًا دوليًا حتى بعد وفاته.
عائلات توارثت التجارة
تعددت العائلات التي مارست التجارة في الآثار بموجب تصاريح رسمية قبل عام 1983م. من أبرزها: عائلة زكي محارب – عائلة محمد حساني – عائلة عبد الرسول – عائلة حسن محمود.
كانت هذه العائلات تبيع القطع بفاتورة رسمية، تتضمن رقم القطعة واسم المشتري، لتسهل عليه الخروج بها من البلاد عبر المنافذ الرسمية.
وفي محافظة المنيا، برزت عائلة السيوفي التي امتلكت عشرات القطع الحجرية المنقوشة، وتم توثيق معظمها من قِبل هيئة الآثار. أما في الأقصر، فبرزت خمس عائلات عملت في بيع الآثار من خلال محال مرخصة وهم: محمد محمود حامد محسن – حساني عبد الجليل – يوسف حسن الشقيري – أحمد ملثم – محارب القمص (المعروف بالعمدة). حتى عام 1983، كان بمقدور أي سائح شراء قطعة آثرية من أحد هذه المحال بفاتورة معتمدة، والخروج بها قانونيًا.
قانون 1983… وما بعده:
أجبر قانون الآثارلعام 1983م حائزي الآثارعلى التوجه لتسجيل ما لديهم طوعًا، لكن البعض احتفظ بكنوزه سرًا في أقبية ومخازن. أما القانون رقم 3 لسنة 2010، فكان تعديلًا مهمًا، إذ شدد العقوبات، وفرض على جميع الحائزين تسجيل مقتنياتهم لدى المجلس الأعلى للآثار، مؤكدًا أن الحيازة لا تعني الملكية.
وقد أدى هذا التعديل إلى إنشاء إدارة خاصة باسم “إدارة المقتنيات الآثرية”، بهدف تنظيم تسجيل الآثارالخاصة، والتي قدّر عددها حينها بنحو 80 ألف قطعة موزعة على 107 حائز، ومن أبرز هؤلاء:
صفوت باسيلي (156 قطعة – أهدى معظمها)
محمد توفيق خطاب (575 قطعة)
الدكتور حسونة السبع (1400 قطعة)
ماري ليليان قنوات (694 قطعة)
هاني مريت بطرس غالي (173 قطعة)
الشيخة حصة (زوجة نجل أمير الكويت – 70 قطعة معروضة بمتحف خاص بالقاهرة)
قضية “زكي محارب”… مخزن العصر الحديث:
في عام 2003م، فجرت مذكرة رسمية فضيحة من العيار الثقيل، حين كشفت الباحثة الألمانية “سليجروم شوتز” عن تهريب مجموعة نادرة من الآثار إلى خارج البلاد عن طريق مواطن ألماني على صلة بـ”زكي محارب”، أحد أكبر تجار الآثار بالأقصر. المفاجأة الكبرى كانت أن ورثة زكي أعادوا للدولة 17 ألف قطعة آثرية، من بينها مومياء تعود لعصر ما قبل التاريخ، وأخرى لتمساح محنط نادر لم يكن معروفًا من قبل.
ما بعد الاعتراف: الهبة بدلاً من المصادرة:
وفقًا لتصريحات وزارة الآثار، فإن بعض الحائزين قرروا التبرع بما لديهم من آثار، في حين أبقى آخرون على ما يمتلكونه في انتظار تحركات جديدة من الدولة. ومن بين الحالات اللافتة:
حسن سليمان (107 قطع انتقلت لابنته)
سعد كامل (476 قطعة انتقلت لابنه)
ريمون عبيد (30 قطعة)
ألفا حياتي الفرنسية (12 قطعة ورثتها عن زوجها)
إرث لا يُشترى:
الآثار المصرية ليست مجرد قطع حجرية أو تماثيل للعرض، بل هي هوية وطنية لا تُقدّر بثمن. وما لم تُبذل جهود قانونية وثقافية حقيقية لحصر ما تبقى من هذا التراث في يد الأفراد، ستظل بعض العائلات تتعامل مع تاريخ مصر كما لو كان سلعة تُورّث وتُباع… “وعلى عينك يا تاجر”!




