بقلم: د. قاسم زكي
من جريفيل تشيستر إلى تشونسي مورتش: حين تتكرّر الخطيئة بثوب جديد
تحدثنا في الحلقة السابقة (رقم 22) عن رجل الدين الإنجليزي
“جريفيل تشيستر”، الذي زار مصر 38 مرة وهرب آلاف القطع الأثرية إلى متاحف بريطانيا. وأنهينا المقال بسؤالٍ ربما يبدو بسيطًا لكنه عميق الدلالة:
“ما الذي يدفع رجل دين أوروبي إلى القدوم للشرق، وبدلًا من التبشير كما يُفترض، يتحول إلى مهرّب آثارٍ كبيرٍ تمجده المراكز العلمية الأوروبية؟”
واليوم ننتقل إلى نموذج آخر من نفس السلالة، لكن من الضفة الأخرى للأطلسي — من الولايات المتحدة الأمريكية. إنه القَسّ البروتستانتي “تشونسي مورتش” (Chauncey Murch، 1856م-1907م)-، مدير البعثة الأمريكية البروتستانتية في الأقصر، الذي قضى ربع قرن في مصر جامعًا للآثار ومصدّرًا لها إلى متاحف الغرب.
قسٌّ بين المذبح والمقبرة
كان “مورتش” رجلَ دينٍ ومسؤولًا كنسيًا، وصل إلى مصر ضمن بعثة تبشيرية ظاهرها التعليم والخدمة، وباطنها يرتبط لاحقًا بسوق الآثار العالمي المتنامي في أواخر القرن التاسع عشر.
عمل في الأقصر نحو 25 عامًا، وخلالها جمع آلاف القطع الأثرية، بعضها من مواقع لم تكن موثقة بعد. وبينما كان يُلقي المواعظ في الكنيسة، كان يسجل أوصاف التوابيت والتماثيل والبرديات التي خرجت من باطن الأرض في الخفاء.
لم يكن “مورتش” متخصصًا في علم الآثار، لكن فضوله دفعه إلى الغوص في هذا العالم، حتى صار جامعًا نهمًا ووسيطًا بارعًا بين المنقبين المحليين والمتاحف الأجنبية. باع للمتحف البريطاني ما يزيد على 3,439 قطعة أثرية خلال الأعوام من 1890م إلى 1907م، وهي قطعٌ مصوّرة وموثقة اليوم على موقع المتحف الإلكتروني. وبعد وفاته، أُهديت نسبة كبيرة من مجموعاته إلى متحف المتروبوليتان في نيويورك عام 1910م، وانتشرت قطع أخرى في متاحف بوسطن وشيكاغو وغيرها. ومع ذلك، يختفي اسمه من اللوحات التعريفية لتلك القطع، وكأنّ الأيدي التي نهبت لا تستحق الذكر.

بين الضمير والدولار
تشير بعض الوثائق إلى أن مورتش كان يتقاضى عمولات مالية عن كل قطعة “ينقذها” من الصحراء — حسب تعبيره — ويبيعها للغرب “حفاظًا عليها من الإهمال”!
لكن الحقيقة أنه كان شريكًا مباشرًا في نهب ذاكرة مصر، تحت شعار كاذب من “الحماية والتوثيق”. تكوّنت لديه خبرة كبيرة في تجارة الآثار، وصار مستشارًا لجامعي التحف الأجانب.
ومن أشهر علاقاته في هذا المجال كانت مع “جين ستانفورد” (زوجة “ليلاند ستانفورد” مؤسس جامعة ستانفورد الأمريكية) وسكرتيرتها “بيرثا برنر”، اللتين التقتا مورتش وعائلته في الأقصر عام 1901م، ثم مجددًا في شتاء 1903م-1904م. عمل مورتش دليلاً ومشرفًا على شراء القطع الأثرية لتأسيس متحف جامعة ستانفورد بولاية كاليفورنيا، وتعاون في ذلك مع عالم المصريات الألماني “إميل بروجش”، أحد أبرز تلاميذ
“أوجست مارييت”. وبفضل هذه الصفقات، ضمّ متحف ستانفورد لاحقًا مجموعة معتبرة من التمائم والتماثيل والمقتنيات المصرية القديمة.
ألواح تل العمارنة… اكتشاف أم صفقة؟
ارتبط اسم مورتش أيضًا بأحد أهم الاكتشافات في تاريخ الآثار المصرية — ألواح تل العمارنة. ففي عام 1887م، وصلته أخبار عن ألواح طينية غريبة اكتُشفت في قرية تل العمارنة بالمنيا، مكتوبة بخط غير معروف. أدرك مورتش أهميتها وأبلغ عنها علماء الآثار، ليتبيّن لاحقًا أنها رسائل دبلوماسية مكتوبة بالمسمارية تعود إلى عصر الملك أخناتون (آمون حوتب الرابع)، وتكشف عن شبكة العلاقات السياسية بين مصر ودول الشرق الأدنى القديم.
ساهمت هذه الألواح في ثورة معرفية حول التاريخ المصري في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وفتحت الباب أمام دراسات عميقة عن الدبلوماسية والاقتصاد والدين في ذلك العصر.
ورغم هذا الإنجاز، فإن دور مورتش ظلّ غامضًا وملتبسًا: هل كان مكتشفًا نزيهًا أم وسيطًا بين المكتشفين الأصليين وسماسرة المتاحف؟
الثابت أنه أول من أعلن عن الألواح وأبلغ العالم بأهميتها، لكنه ظلّ مرتبطًا أكثر بتجارة القطع الأثرية منها بالبحث العلمي.
الختام: عباءة القَسّ لا تُخفي الخطيئة
قصة تشونسي مورتش تطرح مجددًا سؤالًا مؤلمًا: كم من رجال الدين والعلماء، الذين لبسوا قناع الفضيلة، شاركوا في نهب تراث الشعوب باسم العلم أو التبشير أو الحماية؟
في زمنٍ كانت فيه مصر بلا قانون صارم لحماية آثارها، دخلها هؤلاء دعاةً للسلام، وخرجوا منها بحقائب مليئة بالتاريخ. وما بين المذبح والمقبرة، تاهت الحقيقة بين ضميرٍ باع نفسه… وتاريخٍ لم يعد يعرف لمن ينتمي.
روابط خارجية ذات صلة
– للاطلاع على مجموعة “تشونسي مورتش” في المتحف البريطاني:
The British Museum – Chauncey Murch Collection



