ثقافة وفن

ما فعلناه بأم كلثوم

ما فعلناه بأم كلثوم.. أين اختفى تراث كوكب الشرق النادر؟

بقلم: زياد تامر

كان موضوع حديثنا السابق عن
منظومة أم كلثوم
وكيف ساعدتها عوامل تباينت وتتناغمت فأكتملت منظومة أم كلثوم لتصير عموداً رئيسياً لصرح الثقافة في مصر.
كانت أم كلثوم حالة غريبة من الفن، كانت هالتها تحيط بهم حتى تفقدهم صوابهم حين تغني فيصرخون جنوناً؛ تتقمص اللحن والكلمات ويصدح صوتها بكافة الطبقات أعلاها وأدناها وتدخل بين ثنايا الأرواح فتنتشي.

وتعد من القليلات اللاتي استمرت مسيرتهن إلى وفاتهن، فكل مبدع نجمه صائر إلى الأفول ولكنها حظت بصوت مر بمراحل عمرية حتى وصل للمرحلة الأخيرة، ولم تكن عنيدة بوجه الزمن فكانت تختار بعناية الكلمات التي تناسب العصر وقتها ثم تحرص على ان يناسب اللحن الحضور في الزمن الحالي، فترى ان كل حقبة غنت فيها أم كلثوم تختلف بتاتاً عن الحقبة التي تلتها، إذا استمعت لوصلة نادرة من الثلاثينات وجدت صوتاً صبياً كاملاً ولحناً منتظماً وإذا دخلت في الخمسينات تجد الألحان تتنوع وتتجدد والصوت بدأ يكبر قليلاً وإذا دلفت السبعينات تجد صوتاً رخيماً هادئاً وألحاناً عصرية. كانت تواكب الزمن ولا تصرّ مثلاً على غناء أغنية قديمة وإمكانيات صوتها لم تعد تسمح.

وإذا قارنتها بمطربات عاصرتهن وجدت ان أغلبهن أفلن قبل الأوان؛ مثلا منيرة المهدية مثلا تمسكت بحقبة راحت وظلت جامدة اللون حتى نساها الناس، وفتحية أحمد لم تكن حريصة على مسيرتها كما أم كلثوم، أما أسمهان فكانت منافساً قويا لأم كلثوم حتى سرت شائعات بأن لأم كلثوم يداً في قتلها -وذاك حديث آخر-.

صراع العمالقة.. القصبجي والسنباطي

بينما تصارع الملحنون على إبراز صوت أم كلثوم وكان للقصبجي والسنباطي وزكريا الصدارة في ذلك، ولعل وحيدهم الذي ظُلم هو القصبجي الذي أسس بنيان أم كلثوم وجدد من لونها وأسس فرقتها وكانت نهايته على الكرسي ورائها عازفاً للعود، وتباينت الآراء حول الخصام الفني وأرجح الآراء انه أصر على لونه أو أصر على خلق ألحان لم تعد تصلح للفئة العمرية لصوت أم كلثوم وذلك بجانب فشل فيلم عايدة وأم كلثوم تكره الفشل. أما زكريا فأتخذ موقفاً سلبياً بخصامه مع أم كلثوم ففقدنا فرصة الإستماع لروائع لم تكن والعمل الفني لا دخل له بخلافات مبدعيه فالسنباطي وأحمد رامي كانا كثيرا الخلاف معها ولكنهما لم ينقطعا عن واجبهما تجاه الفن. والسنباطي كان أكثرهم حظاً فأحتكر تقريبا حقبة الخمسينات كلها.

…………………………..

ماذا فعلنا بتراث الست؟

وبعد ما موضحناه من مسيرة أم كلثوم وإكتمال منظومتها ماذا إذن فعلنا بهذا كله؟
انطبعت هيئة أم كلثوم في وعي المصريين كما نقلها إلينا التلفاز المصري، سيدة ستينية تغني أنت عمري وبعيد عنك. وإذا سألت أي أحد ماذا يحب لأم كلثوم تجد إجابات مشابهة وكلها تدور في حقبتي الستينات والسبعينات.
ولا أقلل من قدر تلك الأغاني ولكنها تبدو لي كمسلمات علينا جميعاً سماعها وحدها، إذا أردت معرفة مجال ما هناك طريقان؛ ان تبدأ من القاعدة وتصعد حتى القمة أو تبدأ من القمة وتهبط إلى القاعدة التي بدأت منها، ونحن لم نفعل لا هذا ولا ذاك.

أم كلثوم, فيلم الست, محمد القصبجي, رياض السنباطي, تراث أم كلثوم, الإذاعة المصرية, تسجيلات نادرة, منى زكي, زياد تامر, مقالات فنية
أم كلثوم في أوائل الستينات يجلس خلفها أحمد رامي وبيرم التونسي

خمسة عقود من الغناء لا نعلم عنها شيئا سوى العقدين الأخيرين وصار ذلك عاملاً في إهمال القديم من أم كلثوم، فنحن المصريون بارعون في خلق الفن والحضارة ثم نبدع في إهمالها وتدميرها. معظم تسجيلات أم كلثوم الثلاثينات والأربعينات وأوائل الخمسينات والتي كان صوت أم كلثوم فيها في قمة نضجه، باتت مفقودة لا يتمكن المصري من الإستمتاع بها. فمثلاً أين وصلات الأغاني التي أبدعها القصبجي؟ لا توجد سوى لأغنيتين: “رق الحبيب” وتسجيل قديم لمونولوج يُسمى “يا قلبي بكرة السفر”.

واختلف الكثيرون في أمر اختفاء الحفلات؛ منهم من قال انها من عصر بائد فهرع الضباط الأحرار إلى محو التسجيلات كلها، ومنها انها مُخزنة لا تخرج للجمهور.
نُشر في عام 1954 في جريدة تقرير عن الوصلات الموجودة للمطربين في دار الإذاعة وكانت أم كلثوم تحوز 413 شريطاً فأين كل تلك الشرائط؟

وإذاعة الأغاني للآن لم تعطِ رداً صريحاً لتلك الإداعاءات، وحين عبّرت عن حزني لعدم إذاعتهم تلك الحفلات النادرة راسلتني عاملة هناك وأخبرتني بصراحة انهم تحت ضغط شديد لمعالجة ما تلف من الشرائط وتقديمها بأحسن جودة. فلما وصلنا لمرحلة التلف؟! لما لا توجد أرشفة دورية؟ أسئلة لا أجوبة لها.
هناك دول تفتقر لماهية التراث ولو ملكت مثل ما ملكنا لأذاعته ليل نهار طيلة العام تفتخر بصناعاتها ونحن أصحاب الصناعة نترك الشرائط للتلف.

…………………………..

بين فيلم “الست” والواقع الحالي

انتشر مقطع عن مذيع يسأل الشباب عن مدى معرفتهم بأم كلثوم ويجيبون بجهلهم عمن تكون. حتى لو كان لغرض المزاح ولكنه ينبئ عن حدث خطير مازلنا غافلين عنه وهو اقتلاع الجذور من شبابنا، فثيمة الكون ان نمضي للأمام ولكن بوحي من ضمير الماضي وكوننا نغفل عن ماضينا سيجعلنا مسوخاً نحاكي بعضنا بعضاً بمحاكاتنا للغرب.

أم كلثوم في بيت أحد المعارف في أواخر الثلاثينات

وهذا العام كان حافلاً بأم كلثوم ولكن ما الغرض وراء الإحتفال؟ هل هو إحياءٌ لتراثها أم لمجرد استغلال إسمها كمحتوى ترفيهي؟
منذ أيام والناس تتصارع في نقد فيلم “الست” قبل عرضه وكأننا فجأة صرنا نقاداً! ومنذ أُعلن عن الفيلم وأنا متحمس له لثلاثة عوامل: المؤلف والمخرج والبطلة. فأولئك من كبار أعمدة السينما في مصر وسيرة أم كلثوم غنية بالتفاصيل التي قد نجسدها.
وسأرجئ الحديث عن الفيلم حتى أشاهده كي أتمكن من إعطاء رأيي كمشاهد وللآن أحاول ان أتغاضي عن كون الفيلم من إنتاج دولة بينها وبين مصر من توترات سياسية دائمة الظهور ما يجعل المساس بسيرة أم كلثوم وارد الحدوث.

تنويه: أتقدم من جديد بخالص الشكر والتقدير للصديق العزيز “عمرو حسن رجب” الذي لم يبخل عليّ باللازم من الصور والتوثيقات من أرشيفه الخاص “أرشيف نور”.

اقرأ أيضًا

– للتعرف على المزيد عن تاريخ كوكب الشرق ومتحفها الخاص:
زيارة متحف أم كلثوم (صندوق التنمية الثقافية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights