ثقافة وفنسلايدر

منظومة أم كلثوم

كتب : زياد تامر

في عام 1926 لم تدر القاهرة حين شهدت ذات يوم فتاة عشرينية وهي تهبط من قطار الريف ومعها كل امتعتها ونظرة الحيرة والخوف من القادم تفيض من عينيها ولا تدري ما ينتظرها، تحث الفتاة الخطى جارة متاعها وأحلامها وتمضي مع أهلها وهي لا تملك سوى حنجرة قيل انها فريدة.

ويعد ذلك اليوم حدثا فاصلاً بين حقبة ولّت وأخرى بدأت ذلك اليوم، لم تدر أم كلثوم انها الفتاة الغرة التي لا تفقه شيئاً عن القاهرة -إلا حفلات خاصة أحيتها في قصور الأعيان وبعض الفقرات في المقاهي- ستغدو بعد أعوام قليلة أهم مطربة شكّلت وجدان شعوب بأسرها وأثمرت عن ثروة فنية جددت قومية لا العرب والمصريين وحدهم بل الإنسانية جمعاء. بعدها بعامين فقط بدأت أولى النجاحات بعد اكتساح مبيعات اسطوانة “ان كنت أسامح” بشكل لم يسبق له في تاريخ القطر المصري. وسلسلة من النجاحات أصقلت هوية أم كلثوم وموهبتها بشكل لم يتكرر ثانية. وسَلْ عن أعلام مصر تجد أم كلثوم في الصدارة. فكيف غدت من مجرد مطربة لأهم من شكّل هوية الغناء العربي والمصري؟ وكيف مازالت فخراً للمصريين يتذرعون به للبكاء على مجد راح؟

منظومة أم كلثوم:

أجمع النقاد والعلماء على ندرة حنجرة أم كلثوم التي لا يجود بها الزمن إلا كل ألف عام وكأنها طفرة. ذلك المزيج العجيب بين الصوت الذي لا نشاز فيه في أصعب الجمل الموسيقية والإعراب والذي يصدح على المسرح لساعات دون كلل أو تعب وبين اللحن والكلام.

لو كان الأمر برمته أمر حنجرة فريدة لحاز كل صوت حسنُ تشكيل هوية الطرب والثقافة الصوتية ولكن يشاء الله أن تتجمع عوامل عدة ومحاور -تدور في فلك الحنجرة النادرة- وتلك المحاور تتألف من محاور أخرى وهكذا، وسأعرض بعضاً منها لا كناقد أو عالمٍ بل كمستمع يتأمل مجريات الزمن.

ا- الأساس:

وهو الصوت الذي يكاد يكون كاملا ولولا حدود إنسانيته لعددناه من أصوات الجنة.

ب- الزمان والبيئة:

اجتمعت تفاصيل فرعية لولاها لما كانت أم كلثوم ولا كانت ثروة مصر الصوتية؛ ولدت أم كلثوم في 31 ديسمبر 1898 م ونشأت في حقبة تعد قفزة حضارية في تاريخ مصر حيث بدأ شبابها في إشعال الصحوة الفكرية والصمود أمام الركود تحت إمرة العثمانيين ثم الإحتلال، ومضى شبابها ينهل من علوم الغرب وأدبها كي يواكبوا ما فاتهم من تقدم لرفعة البلاد وكان ذلك له بصمته الواضحة في نشأتها الفكرية وبصمات وجدان الملحنين ودعنا نرجئ هذا الحديث قليلا.

يشمل الأمر أيضاً بداية التسجيلات الصوتية على هيئة الإسطوانات وظهور شركات الإنتاج للصوتيات وناهيك عن فرصة انتشار صوتها على الأقل في البلدان المجاورة، فلو ولدت أم كلثوم مثلا في عصر محمد على أو أيا من الخلفاء لما عدت سوى مطربة للقصر والأعيان ولما أخذ صوتها في الإنتشار حتى أقصى البلدان، وقل لن يكون صيتها الآن إلا معلومة تاريخية عن مطربة ذات صوت رائع كمطربة قديمة تُسمى “ألمظ”.

ومما نأسف له انه لا توجد ظروف كاملة؛ فوحدهم معاصروها من عاشوا منظومة أم كلثوم الكاملة، أتفق كبار النقاد والمستمعين ان صوت أم كلثوم الحقيقي هو صوتها في الأربعينات وأواخر الثلاثينات -قبل تأثير العمر- حين وصل لقمة نضجه، ومقصدي هنا ان معظم حفلات أم كلثوم في تلك الفترة شبه مفقودة فإذن حقبتان من مسيرتها مفقودتان ولم يصل لنا إلا شظرات والمتاح لنا من بداية الخمسينات، فذروة أم كلثوم كانت في بدايات الإذاعة المصرية وقبلها الإذاعات الأهلية، فلم يكن لديهم ما لدينا الآن من حفظ دقيق للأرشيف الصوتي وثم الإتلاف الذي وقع للشارئط وناهيك عن استحالة التسجيل المرئي في عهد شبابها. ولذلك حديث آخر.

أما البيئة التي نشأت فيها فأعتمدت على أقدار الله وحده، من إلقاء للأناشيد الدينية منذ الصغر وتعلم مخارج الحروف الصحيحة وحسن النطق والإلقاء ومواجهة الجمهور منذ سن صغيرة، وتشجيع الأهل وكبار الشيوخ، لولا ذلك كله لربما ظلت تخبز في دارها وقد أنجبت الكثير من الأولاد.

ج- مصر:

وتعد مصر من أهم المحاور التي تساند بشكل كبير ثنائية الزمان والبيئة، فمعروف عن المصريين -حتي العقد الثامن من القرن المنصرم- منذ نشأة الحضارات؛ وجدانهم الرقيق وأرواحهم الجياشة التي تتجلى فيها الفنون والإبداع مع لذة الحواس فتخلق لا فناً فحسب بل ابداعاً روحياً يمس الصميم من النفوس لذلك تعدت أم كلثوم مجرد إطراب للآذان، فترى ثنائية الزمان والمكان -مصر- تلتحم في محور أساسي تختل مسيرة أم كلثوم لولاه؛ فلولا صحوة الشباب الفكرية ولولا الملحنين المجددين الذين وُجدوا وقتما وُجدت الحنجرة الفريدة لما جاءت تلك الألحان التي تحرك الوجدان، ذلك الإبداع المصري الخالص الذي تبدى كمزيج بين الشرق ومقاماته وبين الإفادة من الغرب، والكتّاب الذين أراقوا أرق الحديث في أذهان السامعين.

أما لو كانت أم كلثوم من الغرب لصارت مطربة للأوبرا -مثلاً- باردة الحس تبعث على اللذة ولكن لا تهز الأرواح.

د- شخص أم كلثوم وفرقتها:

فلم تمتلك صوتاً كاملاً فحسب بل ملكت أداءا كان يثير جنون السامعين من أبسط عامل لأعظم ملك. ملكت تجويداً في الأداء لا يشبه الذي سبقه وحالة مختلفة لا تشبه اللاحقة فتجد كل حفلة أداءا مختلفا من عين اللحن! وكانت ترتجل فصار ارتجالها في كل حفل له كنيتة الخاصة؛ “تفاريد كلثومية”.

وكانت ذات طموح لا يخمد واهتمام بالتفاصيل لا تفتوته صغيرة؛ العشرات من البروفات حتى يتمكن اللحن من العازفين فترى ان أي عزف راهن لأغنية لا يشبه عزف فرقة أم كلثوم، فقد كانوا يشربون اللحن حتى استطاعوا العزف دون مايسترو.

وكانت ذات شخصية قوية تسعى للكمال كأي مبدع فتدرس الآداب واللغة، وأصول الغناء وحرصها على خلق العمل الكامل، وكرهها للفشل لحد محو ما فشلت في تقديمه من أرشيف الوجود.

تلك إذن بعض من العوامل التي تتداخل اتحدت لتخلق لنا اسطورة أم كلثوم التي لو اختل عاملٌ منها لأنهار كل شيء.

ولا يسعنا المجال هنا للإفاضة في الحديث على الأثر الذي تركته وإرثها الغزير ومدى استحقاقنا له من عدمه إلى تعاملنا معه كمصريين أصحاب التراث والهبة الربانية. فلنا إذن حديث آخر نكمل فيه ما بدأناه.

 

 

أم كلثوم في بدايتها حوالي عام ١٩٢٧
حفلة خاصة في منزل الصحفي محمد التابعي في منتصف الأربعينات تغني (أنا وأنت) كلمات بيرم التونسي وألحان زكريا أحمد
١ سبتمبر ١٩٦٧ بروفة قوم بإيمان وبروح وضمير (حق بلادك)
صورة في منزلها عام ١٩٦٩

تنوية: 

أتقدم بخالص الشكر والتقدير للصديق العزيز “عمرو حسن رجب” الذي أكرمني وأمد المقال باللازم من صور وتوثيقات نادرة من أرشيفه الخاص “أرشيف نور”. وله مني أيضاً جزيل التقدير للمعلومات التي أمدني إياها للمقالات القادمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights