حضارة وتاريخ

نفرتيتي… ملكة المنيا الخالدة: لماذا نحتاج إلى عودتها الآن؟

(أشهر لصوص الآثار المصرية ٢١)

بقلم: د. قاسم زكى
أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة المنيا،
عضو اتحاد الأثريين المصريين، وعضو اتحاد كتاب مصر

حين تُذكر المنيا في الوجدان المصري والعالمي، يتردد اسمٌ واحد يضيء مثل شمس طيبة: نفرتيتي. تلك الملكة التي لم تكن مجرّد زوجة لفرعون، بل امرأة استثنائية شكّلت أقوى ملامح الثورة الدينية والفنية في تاريخ مصر القديمة، وارتبط اسمها بواحدة من أعظم حلقات الإبداع الإنساني. ومع ذلك، فإن الأيقونة التي صنعتها المنيا قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام ما تزال حبيسة في ألمانيا منذ اكتشاف رأسها الشهير عام 1912م، في قصة لا تخلو من الغموض والالتفاف على القوانين.

اليوم، لم تعد قضية تمثال نفرتيتي ترفًا ثقافيًا، بل قضية هوية وذاكرة وتنمية، ترتبط ارتباطًا مباشرًا بمستقبل محافظة المنيا ومكانتها السياحية والحضارية. فما أهمية نفرتيتي للمنيا؟ ولماذا أصبح استعادة تمثالها ضرورة وطنية؟ وما الذي يجعل قصة هذه الملكة مأساة إنسانية وتاريخية تستحق إعادة القراءة؟

أولًا: المنيا… مسقط عبقرية نفرتيتي ومهد ثورة أخناتون

لم تظهر نفرتيتي من فراغ؛ فقد شكّلت المنيا — وبالتحديد تل العمارنة — الحضن الذي وُلدت فيه أعظم تجربة روحية وفنية في تاريخ مصر القديمة. في هذه البقعة على ضفاف النيل، نشأت عاصمة “أخت آتون”، المدينة التي بناها أخناتون ونفرتيتي لتكون مركزًا لعبادة الإله الواحد “آتون”.

أهمية نفرتيتي للمنيا يمكن تلخيصها في أربعة محاور رئيسية:
رمز للهوية التاريخية للمنيا: تل العمارنة أحد أهم مواقع التراث العالمي غير المستغل – معظم النقوش والتماثيل التي تُخلّد جمال نفرتيتي جاءت من هذه الأرض – وجودها أعطى المنيا دورًا محوريًا في تاريخ مصر الديني والسياسي.

محور جذب سياحي ضخم غير مستثمر: لو وُجد الرأس الأصلي أو نسخة مطابقة رسمية منه في متحف المنيا الإقليمي (متحف ملوي) أو في المتحف الأتوني بعد افتتاحه، لأصبح الموقع قبلة عالمية للباحثين والسياح – يمكن لنفرتيتي وحدها أن تعيد رسم الخريطة السياحية للمنيا.
علامة هوية ثقافية معاصرة: تعتمد كثير من حملات الترويج الثقافي في أوروبا على صورة نفرتيتي – بينما المنيا — صاحبة الحق — لا تمتلك رمزها التاريخي الأكبر حتى اليوم.

نفرتيتي ليست مجرد ملكة؛ بل هوية لمكان، وروح لمدينة عالمية اندثرت بمرور الزمن وتنتظر إحياءها.

ثانيًا: رأس نفرتيتي في برلين… قطعة أسرت العالم وسُرقت من موطنها

قصة خروج رأس نفرتيتي من مصر واحدة من أكثر القصص إثارة للجدل في تاريخ الآثار. فالتقرير الأصلي الذي قُدم للمسؤولين المصريين في ذلك الوقت وصف التمثال بأنه “قطعة جصية لا قيمة لها”، بينما أُخفيت حقيقتها عمدًا لتمريرها إلى ألمانيا.

لماذا تُعد عودة تمثال نفرتيتي ضرورة؟
لأنها قطعة غير قابلة للتعويض: تمثال نفرتيتي ليس مجرد أثر، بل تحفة فنية فريدة تُعد من روائع الفن العالمي – قيمته الفنية والجمالية تفوق قيمة أي قطعة أخرى خرجت من مصر.
رمز للعدالة الحضارية: بقاء التمثال في برلين استمرار لحقبة استعمارية استنزفت آثار الشعوب – عودته رسالة قوية بأن مصر تستعيد تاريخها وكرامتها الحضارية.
قيمة اقتصادية ضخمة: التمثال يجذب وحده أكثر من مليون زائر سنويًا إلى متحف برلين الجديد – وجوده في المنيا سيحدث طفرة حقيقية في السياحة المحلية والدولية.
استعادة الوعي العالمي بأهمية تل العمارنة: كل قطعة أثرية تعود تعيد معها الضوء إلى الموقع الذي خرجت منه – من دون نفرتيتي، تبقى المنيا ناقصة الحضور أمام العالم.

ثالثًا: نفرتيتي في التاريخ… دور أعظم من ملكة

قليلات هنّ الملكات اللاتي لعبن دورًا محوريًا في توجيه دفة دولة بأكملها، لكن نفرتيتي كانت استثناءً ملهمًا. وأبرز أدوار نفرتيتي التاريخية:
شريكة في الحكم لا مجرد زوجة: تظهر في النقوش في وضع يساوي أخناتون — تحمل الصولجان، تشارك في الطقوس، تجلس على العرش -كانت جزءًا أصيلًا من عقيدة “آتون” ورسالتها الروحية.
قائدة فنية صنعت ثورة الجمال المصري: أسلوب العمارنة في الفن وملامحه الرقيقة واقعيته كان انعكاسًا لحضور نفرتيتي – في تمثالها عاشت “الواقعية المثالية”، جمال لا يزول مع الزمن.
أمٌّ لست بنات… وصانعة المستقبل الملكي: لعبت دورًا مهمًا في تثبيت الشرعية السياسية عبر بناتها اللاتي تزوجن من ورثة العرش -عائلتها أصبحت نموذجًا فنيًا واجتماعيًا يُدرَّس حتى اليوم.

رابعًا: مأساة نفرتيتي… من ذروة المجد إلى الغياب الغامض

مع عظمة الدور يأتي الثمن. قصة نفرتيتي تحمل ملامح مأساة إنسانية وفلسفية:
اختفاء غامض من السجلات الملكية: فجأة، اختفت نفرتيتي من النقوش، واختلف العلماء: هل نُفيت؟ هل ماتت مبكرًا؟ هل حكمت باسم آخر مثل “سمنخ كارع”؟ غيابها لغز لا يزال مفتوحًا.
دفنتها الأحداث تحت رمال النسيان: بعد وفاة أخناتون، انقلبت مصر على ثورة التوحيد، أزيلت تماثيلهم، وشوهت ملامحهم، ومُحي تاريخهم عمدًا.

وجسدها لم يُعثر عليه قط: لم يعرف العالم قبر نفرتيتي إلى اليوم، رغم عشرات البعثات البحثية.
وتمثالها الوحيد في حالة “سلب حضاري”: كأن القدر يصرّ على أن تظل الملكة الجميلة “غائبة” عن وطنها؛ غابت في التاريخ، وغابت في الجغرافيا أيضًا.
هذه المأساة الإنسانية — الاختفاء، والمحو، والاغتراب — تجعل قضية استعادة رأس نفرتيتي قضية إنصاف لامرأة ظلمها العصر القديم والحديث معًا.

خامسًا: لماذا تحتاج المنيا إلى نفرتيتي اليوم؟

لإعادة إحياء مشروع المتحف الأتوني: المتحف الأتوني مشروع قومي ضخم كان يمكن أن يكون أحد أهم متاحف الشرق الأوسط. وجود تمثال نفرتيتي فيه سيجعله مركزًا عالميًا لدراسة العمارنة.
لتحويل المنيا إلى وجهة سياحية دولية: يمكن خلق مسار سياحي كامل: “طريق نفرتيتي” يربط بين تل العمارنة، بني حسن، تونة الجبل، الأشمونين.
لصناعة علامة تجارية عالمية: اسم نفرتيتي يمكن أن يصبح رمزًا لمنتجات فنية وثقافية تحمل هوية المنيا.
لتحقيق العدالة التاريخية: اعتراف العالم بحق المنيا في رمزها الأكبر يعيد التوازن لسردية الحضارة المصرية.

سادسًا: ماذا يمكن أن يحدث لو عادت نفرتيتي؟

لو عاد رأس نفرتيتي إلى المنيا، فإن ذلك سيعني:
طفرة سياحية غير مسبوقة في الصعيد.
استثمارات جديدة في الفنادق والخدمات والبنية التحتية.
نشاطًا عالميًا للبحث العلمي في آثار العمارنة.
بناء صورة جديدة للمنيا باعتبارها “عاصمة الجمال المصري القديم”.
إضافة مميزة لافتتاح المتحف الأتوني، وربطه بالمتحف المصري الكبير في القاهرة.
ستصبح المنيا ليست مجرد محافظة، بل عاصمة عالمية لتاريخ الفن والجمال المصري القديم.

خاتمة

نفرتيتي ليست مجرد تمثال، ولا مجرد أسطورة. إنها امرأة مصرية صنعت مع زوجها إخناتون حدثًا غير العالم، وجعلا من المنيا مركزًا لحضارة إنسانية فريدة. لقد اختفت هي من التاريخ، ثم اختُطف تمثالها من الجغرافيا، وبقيت روحها تبحث عن وطن يعود إليها.
إن عودة رأس نفرتيتي ليست مطلبًا أثريًا فقط، بل استعادة لجزء من كرامة الهوية المصرية، وفرصة ذهبية للمنيا لتستعيد دورها الحضاري الذي تستحقه.
ستظل المنيا تقول للعالم:
“هنا وُلدت نفرتيتي… وهنا يجب أن تعود.”

اقرأ أيضًا على الدليل نيوز

– حول تاريخ حماية التراث المصري:
مارييت باشا.. مؤسس مصلحة الآثار وقصة الحفاظ على التراث

– عن نهب الآثار عبر العصور:
آثار مصر الرومانية.. جرائم النهب والتخريب (تماثيل ممنون نموذجًا)

– المصدر الرسمي للآثار المصرية:
وزارة السياحة والآثار المصرية

– عن منطقة تل العمارنة والمنيا:
مركز التراث العالمي – اليونسكو (آثار المنيا)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights