العروسة والحصان.. تمازج حضاري يجمع بين الأسطورة والتراث والاحتفال بالمولد

العروسة والحصان تمازج حضارى مصري قديم مسيحى إسلامى
كتب د. عبد الرحيم ريحان
العروسة والحصان قديمًا هما تجسيد لأسطورة إيزيس وأوزوريس فى شكل حصان المولد المستوحى من تمثال “حورس” راكبًا الحصان ممسكًا بالسيف ليقتل رمز الشر “ست” والذى صور على هيئة تمساح وفى شكل عروسة المولد وكرانيشها الملونة المستوحاة من جناح إيزيس الملون
وفى الفترة المسيحية صنع مسيحيو مصر العروسة فى مصانع بمنطقة أبو مينا بكينج مريوط بالإسكندرية وكانت ترمز فى المسيحية إلى النفس البشرية وهى اللعبة المفضلة للبنات وصوروا الفارس وهو البطل الذى يمتطى جواده ويطعن الشر بحربته وهى الصورة التى استوحاها المسيحيون من النحت الذى يمثل حورس وهو يطعن (ست) رمز الشر.
تلاحم حضارى
العروسة والحصان تؤكدا تلاحم شعب مصر نسيج واحد حيث كان يصنع المسيحيون والمسلمون حلوى المولد ليحتفلوا سويًا بالمولد النبوى وكان المسيحيون متقدمين فى صناعة السكر منذ إنشاء أول مصنع عام 1811 وأنشئت مصانع للسكر فى أبو قرقاص وملوى بمحافظة المنيا
وشهد العصر الفاطمى عملًا دؤوبًا من المسلمين لإحياء مصانع الحلوى بمدينة أبو مينا التى أغلقت أبوابها وصادف ذلك احتفالهم بالمولد النبوى الشريف وبدأ العمال المسيحيون فى استئناف نشاطهم وصنعوا العروسة والفارس الممتطى الحصان كى يفرح بها الأطفال المسلمون والمسيحيون بعيدًا عن أى مدلولات دينية ثم صنعت العروسة والحصان من الحلوى وخامات مختلفة فى الاحتفال بالمولد النبوى الشريف وكانت احتفالات المولد قومية يحتفل بها كل شعب مصر بنسيجه الوطنى مسلمين ومسيحيين
وصنع الفاطميون حلوى المولد وقاموا بعمل مخازن لصناعة الحلوى بحيث تُجهّز الحلوى وتوزع مجانا على الشعب قبل المولد النبوي بشهرين وعندما زادت الاحتياجات بدأ ظهور محلات لبيعها وكان يطلق على حلويات المولد “العلاليق” لأنها كانت تعلق على أبواب المحلات التجارية في سوق مخصوص للحلويات كان يسمى سوق الحلويين ومن ثم أصبحت عادة سنوية مستمرة حتى يومنا هذا.
شهادة الحملة الفرنسية
رصدت الحملة الفرنسية احتفالًا بالمولد النبوى الشريف فى الساحة الرحبة ببركة الأزبكية حيث كانت تنصب السرادقات للدراويش وحلقات الذكر للمنشدين طوال الليل وكان الخليفة الفاطمى يخرج راكبًا حصانه ومن خلفه سيدة القصر فى هودجها فى موكب مهيب يبدأ من قصر الخلافة وحتى مشهد الحسين رضى الله عنه ومن هذا الموكب قد تكون ظهر ما يعرف بحصان المولد وعروسة المولد حيث صنع المصريون من السكر أشكالًا للحصان والعروسة الموجودة حتى الآن.
الحسين والقلعة والأزبكية
ارتبط الاحتفال بالمولد النبوى بثلاثة أماكن هي قصر الخلافة والمشهد الحسيني في العصر الفاطمي والحوش السلطاني أو حوش الباشا في القلعة في العصرين المملوكي والعثماني و بركة الأزبكية أيام الحملة الفرنسية.
وتمثلت مظاهر الاحتفال فى العصر المملوكى والعثمانى بإقامة السلطان خيمة بالحوش السلطاني فى القلعة ذات أوصاف خاصة تسمى “خيمة المولد” ينصبها 300 شخص ويوضع عند أبوابها أحواض من الجلد تملأ بالماء المحلى بالسكر والليمون وتعلق حولها الأكواب الفاخرة المصنوعة من النحاس الأصفر والمزينة بالنقوش الجميلة وتربط هذه الأكواب بسلاسل من النحاس ويصّف حولها طائفة من غلمان الشربخانة لمناولة الوافدين من الناس ولا فرق بين صغير وكبير واستمرت إقامة هذه الخيمة حتى العصر العثمانى.
وفى الليلة الختامية للاحتفال يظهر المقرئون براعتهم فى التلاوة بآيات الذكر الحكيم فيتعاقب واحد بعد الآخر وبعد صلاة المغرب تمد الحلوى المختلفة الألوان وفى صباح يوم المولد يوزع السلطان كميات من القمح على الزوايا.
ويقع الحوش السلطانى أوحوش الباشا حاليًا فى الطرف الجنوبى الغربى من الساحة الجنوبية لقلعة صلاح الدين ويضم ثلاثة مبان هي قصر الجوهرة وسرايا العدل ومقعد قايتباى ككتلة واحدة وشيد قصر الجوهرة فى عهد محمد على باشا للاستقبالات الرسمية
نابليون والمولد
اهتم نابليون بونابرت أيام الحملة الفرنسية بإقامة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف سنة (١٢١٣هـ/ ١٧٩٨م) من خلال إرسال نفقات الاحتفالات إلى منزل الشيخ البكري نقيب الأشراف فى مصر في حي الأزبكية وكانت ترسل الطبول الضخمة والقناديل وفي الليل تقام الألعاب النارية احتفالًا بالمولد وعاود نابليون الاحتفال به في العام التالي لاستمالة قلوب المصريين إلى الحملة الفرنسية وقادتها.
باب البحر
يعد شارع باب البحر في القاهرة هو معقل صناعة حلوى المولد حيث يضم الكثير من المصانع والورش المتخصصة في صناعة عروسة المولد ويبدأ من ميدان باب الشعرية وينتهى إلى شارع كلوت بك بأول الفجالة القريبة من ميدان رمسيس و سمي شارع باب البحر بهذا الاسم نسبة على أحد أبواب القاهرة وكان يفتح على النيل وقت أن كان يجري بميدان رمسيسالاختلاف في صناعة الحلوى الآن هو عملها بشكل مميكن ووضع اشتراطات صحية ويدون عليها تاريخ الإنتاج والصلاحية كما بدأت العروسة المصنوعة من الحلوى تتحول إلى لعبة من البلاستيك واحتفظت بنفس المواصفات الخاصة بالشكل التراثي لعروسة المولد وظهرت أشكال عصرية وجديدة ومستحدثة لعروسة المولد تجمع بين الموروث الثقافي العربي والثقافة العالمية
وتتنوع حاليًا المواد التي تُصنع منها تلك العروس ما بين الخشب والزجاج والقماش ومؤخرًا البلاستيك والخيوط وتطورت إلى أن أصبحت بلاستيك وإلكترونية وكهربائية أيضًا ومزينة بإضاءات مبهجة وملابس مختلفة إلّا أن النسخة القديمة المصنوعة من السكر والحلوى ذات اللون الوردي تظل الأكثر شهرة وخلودًا في الذاكرة على مر الأجيال.