
بقلم دكتور قاسم زكى
أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة المنيا، عضو اتحاد الأثريين المصريين، وعضو اتحاد كتاب مصر
ذكرنا في الحلقة السابقة (رقم 6 حتى المسلات العملاقة هُربت للخارج) عن مسلات مصرية عملاقة هربت للخارج. ولعل ذلك نعده استكمالا لمسلسل تهريب المسلات المصرية للخارج والذي استمر منذ قرون ما قبل الميلاد وحتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي.
فحين ضعف حكام مصر الفرعونية وساد الفساد في دواليب الدولة، بدأت جحافل الغزاة تدك أبواب المحروسة وأقدامهم الثقيلة تطأ أرضها وتستولى عليها. كانت البداية مع الاحتلال الفارسي حين استولوا على مصر سنة 525 ق.م، فعاثوا في أرضها الطاهرة فسادا وتخريبا ونهبا، وناوشهم ونافسهم الإغريق حتى زحفوا واحتلوا مصر أيضا عام 332 ق.م وليمكثوا فيها ثلاث قرون كاملة، ليطردهم الرومان ويستولوا هم على مصر بدلا منهم (عام 32 ق.م.)، ويزداد النهب والسطو الروماني طيلة ستة قرون كاملة.
وكان الإغريق يؤمنون بأن مصر أصل كل شيء عظيم، الدين والنظام والحكم والعلم، وكل ما هو عجيب، فحرصوا على تعلم تلك العلوم ونقلها لوطنهم، ويبدوا انهم لم يُهربوا آثار مصرية لبلادهم، فقد استوطنوا مصر وأصبحت وطنهم البديل. ولا يوجد دليل تاريخي موثوق به يؤكد تهريب الإغريق أو استيلائهم على الآثار المصرية ونقلها إلى بلادهم بشكل منهجي ومنظم؛ برغم إعجابهم وتقديرهم للآثار المصرية. ويقول أبو التاريخ “هيرودوت” (Herodotus؛ حوالي 484 ق.م – 425 ق.م) في ذلك “ليس هنالك قُطر به من العجائب ما يوجد بمصر، وليس هناك بلد فيه من الصنائع ما هو موجود بمصر” وكان هيرودوت عاشقا لمصر، وعاش فيها خمس سنوات (460-455 ق.م) وجاءت زيارته ومكوثه في وقت كانت مصر العظيمة قد ولت منذ قرون قليلة، فشاهد الكثير من آثارها الباقية قبل أن تنهال عليها يد التخريب والنهب.
وبعد الاحتلال الروماني لمصر عام 32 ق.م، جعلوها ولاية مميزة تتبع الأباطرة مباشرة، وأقام الرومان شبكة مواصلات سهلة وسريعة ربطت كل ولاياتهم عبر العالم القديم بطرق البر والبحر السريعة الأمنة، وكانت الانتقالات عبر بحر الروم (البحر المتوسط) قد صارت آمنة مستقرة وحركة السفن فيها نشطة تحمل البضائع والمسافرين إلى شتى المرافئ، وبنيت سفن تصل حمولتها إلى ألفي طن ويزيد طولها عن 53 مترا تمخر عباب البحر إلى الإسكندرية، ولعل تلك السفن سهلت نقل المسلات العملاقة إلى روما. ومع توفر الأمن والثراء وجدت طبقة من الناس لديهم من المال والفراغ ما يسمح لها بالسياحة في ربوع الإمبراطورية بيسر وسهولة. واخذ السائحون والدبلوماسيون والسفراء والعسكريون الرومان يتوافدون على مصر بالآلاف ينشدون العلم والثقافة والتسلية والترفيه، وهذا في حد ذاته كان سببا في العبث بآثار مصر وأتلافها، بل كان من ضمن أهدافهم الحصول على قطع آثرية فرعونية. والإمبراطور الروماني هادريان (حكم117م- 138م) جمَل حدائق روما بآثار مصر الفرعونية، وكان من أكثر ما استهوى الرومان في مصر تلك المسلات الفرعونية برشاقتها ونقوشها الهيروغليفية فاستولوا على العديد منها، كما فصلنا في المقالة السابقة رقم (6).
لم يكتف الرومان بنقل المسلات العملاقة والتماثيل الضخمة إلى روما وبقية المدن الرومانية القديمة لتزيينها، ولكنهم ساهموا بشكل أو بأخر في نهب وتدمير تلك الآثار. وكما ذكرنا أن وفود الرومان هلت على مصر كسواح، وكان السائح الروماني يبدأ جولته بزيارة أهرام الجيزة حيث كانت الكسوة الهرمية مازالت سليمة في ذلك الوقت (كما ذكر ذلك العالم والمؤرخ والجغرافي والفيلسوف اليوناني “استرابو” Strabo؛ 64 ق.م – 22م؛ حين زيارته لمصر عام 25 ق.م).
وقام كثير من الرومان بتسجيل أسمائهم على الكسوة فأتلفوها. ثم يصعد سواح الرومان في النيل إلى الأقصر، ويدلفون بعده إلى وادي الملوك بالغرب حيث مقابر فراعنة مصر العظام. ويسجل المؤرخون أن عند احتلال الرومان لمصر كانت معظم مقابر وادي الملوك قد فتحت ونهبت، وقد تسلل بعض السائحين إلى حجرات الدفن حبا في المغامرة، بل سجلوا أسمائهم على جدرانها، حتى أن المؤرخ اليوناني ديودور الصقلى (Diodorus Siculus؛ 90 – 30 ق.م) أشار الى انه لم يجد سوى ما نتج عن السلب والتخريب.
نستكمل بإذن الله في الحلقة القادمة (8) ماذا فعل أباطرة روما بتمثالي “آجا ممنون” العملاقين وماذا فعل مسيحو مصر الأوائل بالآثار المصرية.