طوفان و كيس

كتب: زياد تامر
إهداء من عاجز: إلى أهل المحن والصبر، إلى أهل غزة وباقي البلد المحتل، أهدي إليكم بعضاً من ذكراكم الأليمة وأسفاً حزيناً عن قلة الحيلة في شخصي. لا أملك سوى القلم أنقل به قبساً مما عشتوه…
يقول راوٍ :
حياة بأسرها؛ بمسراتها ومصابها قد تخبو في لحظة تاركة أثرها حياةً تتخبط بين الفناء والإستمرار، لحظة من الزمان تكفي لحشو ذكرى وحب في دهاليز الأكياس:
جالسٌ هو وبين ذراعيه نائمة في سكونٍ -بعد فزعٍ وصراخ- طفلته الرضيعة، بينما زوجه وأبنه بجانبه؛ أشلاء مجمعة في أكياس.
ما تصور قط أن هذه الأكياس ستسع يوماً بقايا زوجه وإبنه! رحمكم الله يا نور قلبى فبعدكم أظلم القلب.
للحظة خطرت على باله فكرة؛ لما لا يُنهي كل شيء؟ لما التأخير والمصير واحد؟ كيف تكون له حياة من بعدهم؟ بالأمس كانوا ثم الآن راحوا، حدث كل شيء في لحظة.
همّ بالنهوض ليموت هو وإبنته ويلحق بالشهداء وعسى أن يغفر الله فهو مطلع على كل شئ، ولكنه سمع مناجاة الرضيعة وهمهمتها مع طيف حراسها الأثيرين، ارتجف قلبه؛ خيل إليه أن أمومة زوجه خالطت أبوته فخلقا رباطاً بين قلبه وقلبها، ظلّت روحه تناجي همهمات نومها، ما ذنب الصغيرة؟ إنها ما اختارت تلك الحياة وما أتت إليها بإرادتها بل بإرادته هو و زوجه، هو الذي أتى بها إلى هذه الدنيا، أما كفاه ما جنى به عليها؟ أيريد بعد ذلك أن يُنهي حياةً ما اختارت أن تُخلق فيها؟! أيختار لها الفناء بعد حياة لم تحيا فيها إلا شهرا؟! فعَدَلَ عن تلك الفكرة.
لا أذاقكِ الله ما ذقته! اللهم طوّل في عمرها وأحطها بحفظك فما هى إلا وديعتك ولا تثكلها في أبنائها. دمعة حارة سقطت من عينيه لتقع على وجه الطفلة وسرعان ما فتحت عينيها، ظلّت ترنو إليه برهة وسرعان ما ألفت وجهه وجعلت تصدر أصواتاً بينما تحرك كلتا يديها فى الهواء.
همّ أن يدعو أن تظلّ حية حتى تتحرر البلاد ويُقتل كل يهود الأرض ولكن بدا ذلك كله محالا وبعضاً من خيالات الغضب والأسى الذليل.
رنا لطفلته، يقولون إن الأطفال مكشوف عنهم الستار إلى حين، لعله مَلَكٌ يعزيها ليتمها أو لعلّهم الأحباب يلقون عليها نظرة وداع قبل سباتهم في البرزخ.
طالما سمع ورأى جحود اليهود وكفرهم في العباد؛ بداية من دير ياسين، ألم يكن له جدٌ استشهد آنذاك وهو يدافع عن شرفه وبيته! وألَم يشهد اِنتفاضة الأقصى! ألم يحزن على أبي محمد الدرة لفقدانه ولده على مرآى من العالم! ما تصور قط أن يكون قدره كقدر ذلك الأب المكلوم! طالما وعى ذلك كله، ولكن أن يشهد مجزرة ومذبحة كتلك الراهنة ويموت له إثنين قد فاق كل وصف! كيف لأناس أن يحملوا حجارة القلوب بل والله إن للحجارة رأفة للأطفال عنهم؟َ! كيف لقومٍ استأثروا بقذارتهم وشرورهم على مر الأجيال منذ أيام موسى؟!
همّ بأن يشكى همّه لزوجه ولكنه تذكر أنها أصبحت أشلاءا في كيس بجانبه.
تزوجها زواجاً تقليدياً بعد تجربة حبٍ ككل تجارب الحب الأول قبل الزواج، لم يفلح فيه فنذر روحه وأعرض عن الحب، ألحّت عليه أمه أن يتزوج لترى أحفادها وسرعان ما أُرضخ لرغبتها وترك لها أمر اِختيار العروس، حين ذهب وأهله إلى بيتها لطلب يدها أصابته الدهشة وألجمه الذهول.
آية من الحسن، أيكون كل ذلك الجمال من نصيبه! فحمد الله وأمتلكه الرضا وبعض الغرور.
تزوجا وكل يوم يكتشف فيها نبل أخلاقها وحسن سريرتها، ظن أن تلك السعادة التي عاشها -رغم الإحتلال وضنك العيش- مبعثها العشرة والمودة التي جمعتهما، الآن فقط أدرك أنها حبه الأول والأخير، أدرك ذلك وهي أشلاء في كيس بجانبه.
أنجب منها ولده ثم بعدها بأربع أعوام أنجبها، رغم استمرار الحياة كان لابد من حدثٍ يهز أركان الحياة.
منذ اندلع طوفان الأقصى وهو مدرك أي فاجعة ستحل بهم، ظلّوا في بيتهم سائلين الله أن يلطف بهم ويبقى البيت واقفاً أمام أهوال اليهود، ولكن اشتد القصف وأحسوا بدنو أجل البيت فهربوا، أُصيبت زوجه إصابة قد تميت فأسرع بهم إلى المشفى الوحيد المتاح والذي لا شك فيه أمان!
كله مكتوب، هربنا بكِ إلى ها هنا لننقذكِ من الموت ليأخذكِ موتٌ آخر!
بينما هي تنتظر دورها عبثاً بين مئات المصابين والهاربين ألهمها الله أن تطلب من زوجها أن يأخذ الأولاد ويذهب لإحضار طعام لهم وماءٍ للشرب رغم استحالة مطلبها، ولكن يشاء الله أن يتمسك الإبن بكُم أمه خوفاً من القصف فيتركهم الأب ظاناً أنه بلا ريب سيعود إليهم، وها قد عاد إليهم بعد أن أصبحوا أشلاءا وضعها في كيس.
بكت الطفلة فجأة جوعى لحليب أمها، ياليت كان بالإمكان ولكنها في الكيس أشلاء!
غداً ستفرح بالحزن وتشقى بالحزن، غداً ستحيا بالقهر وتموت بالقهر، غداً ستحتفل مع الحزن حين يتوقف المحتل قليلاً عن قصف بلدهم وديارهم!!
وقال وهو يهدهدها:
لما تسارعين إلى البكاء والبكاء آتٍ آتٍ؟!
انتهت
كلمة ليست أخيرة:
كتبتُ القصة حين وقعتْ كارثة المستشفى بعد اندلاع الإبادة بأشهرٍ وجيزة، وأرتأيت الآن أن أسعى لنشرها بعد انتهاء الإبادة وقد صارت غزة أطلالاً لن يتسنّى لها أن تُعمر مكانها حياةٌ مجدداً، سعيتُ كي لا ننسى، فالكلمة حين تُكتب تظل، وأرغب أن تظل الحادثة حاضرة دائماً وما سبقتها ولحقتها من أحداث وما ستلحقها، أضفتُ فقط سطراً علّ القارئ أن يهتدي إلى موقعه ويدرك الأثر المقصود الذي أريد توضيحه وزرعه.