الديون الصغيرة.. باب رزق أم فخ الغارمين؟

إعداد: منصور عبد المنعم
في قرية صغيرة على أطراف محافظة الشرقية، جلست “أم محمد” أمام ماكينة خياطة قديمة تروي حكاية بدأت بحلم وانتهت بكابوس.
حصلت على قرض متناهي الصغر بقيمة عشرة آلاف جنيه لتفتح مشروعًا منزليًا بسيطًا. في البداية، بدا الأمر كأنه طوق نجاة من الفقر، لكن الأقساط الشهرية وفوائدها المتراكمة سرعان ما ابتلعت كل أرباحها، حتى وجدت نفسها مهددة بالحبس بعد تعثرها في السداد.
على الجانب الآخر، هناك “أسماء” من مدينة الزقازيق، التي استخدمت القرض نفسه لتفتح محل أدوات تجميل، وتمكنت خلال عامين من مضاعفة رأس المال وسداد المبلغ بالكامل. بين الحالتين، يقف آلاف المصريين يتأرجحون بين الأمل والهاوية.
باب رزق أم فخ ديون؟
تُعد القروض متناهية الصغر وسيلة ابتكرها الاقتصاد الحديث لمساعدة الفقراء على بدء مشاريع صغيرة.
لكن في مصر، تحول هذا الباب في كثير من الأحيان إلى مصيدة للنساء الفقيرات اللاتي وقعن ضحية إعلانات مغرية وإجراءات سريعة لا تشرح التفاصيل الحقيقية للفوائد والالتزامات.
تقول “منى.ع”، وهي إحدى المقترضات:
“كنت فاكرة إن القرض هيساعدني، لكني مكنتش أعرف إن الفايدة كل شهر بتزيد، وإن التأخير في قسط واحد ممكن يوديني النيابة!”
أرقام تكشف الواقع
وفقًا لتقارير الهيئة العامة للرقابة المالية، تجاوز عدد المستفيدين من التمويل متناهي الصغر في مصر أربعة ملايين مواطن، بإجمالي محفظة تمويل تخطت 50 مليار جنيه.
لكن وراء هذه الأرقام البراقة، تكمن مشكلة خطيرة؛ إذ تشير بعض التقديرات غير الرسمية إلى أن ما يزيد على 20% من المقترضين تعثروا في السداد، مما تسبب في دخول المئات ضمن قوائم الغارمين والغارمات.
بين القانون والرحمة
يقول المستشار القانوني أحمد البقري :
“القروض الصغيرة مفيدة عندما تكون منظمة وتخضع لرقابة الدولة، لكن كثيرًا من الجمعيات تستخدم إيصالات أمانة تجعل المقترض في مواجهة مصير السجن إذا تعثر دون قصد.”
بينما يضيف خبير الاقتصاد د. محمد شريف:
“التمويل الصغير يمكن أن يكون أداة قوية للتنمية، لكن بشرط أن يصاحبه تدريب وتوعية مالية، وليس مجرد منح أموال ثم ملاحقة الناس بالفوائد.”
المرأة الريفية.. الحلقة الأضعف
في القرى الريفية، تلعب النساء الدور الأكبر في هذه الظاهرة. فالكثيرات وقّعن على أوراق دون قراءة التفاصيل، تحت ضغط الحاجة أو إقناع مندوبات الجمعيات.
وتتحول القروض من وسيلة لتحسين الدخل إلى عبء يومي يطارد الأسرة بأكملها، فتبيع الأم ذهبها، ويقترض الأب من جديد لسداد القديم.
من الإصلاح إلى الرقابة
المطلوب اليوم – كما يؤكد الخبراء – هو إعادة النظر في منظومة القروض الصغيرة عبر فرض رقابة صارمة على الجمعيات والشركات، ووضع حدود واضحة للفوائد، مع توفير برامج توعية مالية للفئات المستهدفة.
كما يُطالب البعض بإدخال بند “الإعفاء الجزئي” للمتعثرين حسن النية، بدلاً من تحويلهم إلى غارمين.
الديون الصغيرة في مصر ليست مجرد أرقام في دفاتر البنوك، بل قصص إنسانية معلقة بين الحلم والفقر.
هي سلاح ذو حدين:
إما باب رزق يفتح الأمل، أو فخ غارمين يغلق أبواب الحياة.
والفارق بينهما… كلمة واحدة: الرحمة.




