برناردينو دروفيتي.. الدبلوماسي الذي نهب آثار مصر باسم الحضارة
(أشهر لصوص الآثار المصرية 13)

بقلم/ د. قاسم زكى، أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة المنيا،
عضو اتحاد الأثريين المصريين، وعضو اتحاد كتاب مصر
نستكمل مسيرتنا في السلسلة الأسبوعية عن (أشهر لصوص الآثار المصرية)، ونبدأ هذه الحلقة الثالثة عشر ولمدة عشر حلقات تالية سوف نتناول اشهر عشرة لصوص آثار مصرية أجانب، والذين هبطوا الى بلادنا بحجة استكشاف الحضارة المصرية القديمة، لكنهم نهبوا الآثار وهربوها الى الخارج، نتناول سيرهم الذاتية وما فعلوه بتراث وآثار مصر.

برناردينو دروفيتي (Bernardino Drovetti؛1776م -1852م) وُلد في باربانيا، بيدمونتي، إيطاليا، في عام 1776م، وأصبح لاحقًا مواطنًا فرنسيًا. كانت مسيرته متنوعة للغاية: خدم في جيش نابليون، حيث تميز خلال الحملة الفرنسية في مصر (1798م-1799م) بإنقاذ حياة “جواكيم مورات” (أشهر قادة نابليون). دروفيتي هو رحالة ودبلوماسي وعسكري فرنسي ومستكشف وأثري، كان يعتبر بشكل ما قنصل نابليون في مصر، وبهذه الصفة (القنصل العام الفرنسي في مصر)، لعب دروفيتي دورًا مهمًا في الدبلوماسية والسياسة، وكسب ثقة الوالي محمد علي باشا وساهم في الإصلاحات الإدارية، وكان له دور فعال في دعم صعود وحكم سلالة محمد علي، التي حكمت مصر منذ عام 1805م حتى عام 1952م. ومع ذلك، ربما يكون معروفًا بشغفه بالآثار المصرية. جمع ثلاث مجموعات رئيسية من الآثار المصرية، والتي بيعت لاحقًا إلى المتاحف الأوروبية: متحف “إيجيزيو” في مدينة تورينو الإيطالية، ومتحف “اللوفر” في باريس، والمتحف المصري في برلين. لذا كان برناردينو دروفيتي شخصية مثيرة للجدل في تاريخ الآثار المصرية.
جندي إيطالي لخدمة فرنسا:
حينما احتل نابليون بلده إيطاليا (1796م) التحق بجيش نابليون وقدم خدماته لهم وأصطحبهم لاحتلال مصر (1798م-1801م)، وبعد فشل الحملة على مصر، أتى لمصر كقنصلاً عامًا لفرنسا في مصر خلال الفترة من 1803م إلى 1815م، ثم لفترة ثانية من عام 1821م إلى 1829م. أمضى فترة كاملة في مصر يجمع فيها أعمالاً آثارية، وكان جامعًا نهما وجشعا للآثار وعالم مصريات هاوٍ. أتى الى مصر المحروسة في وقت فتحت أبواب مصر وآثارها على مصراعيهما أمام الاهتمام والشراء النهم من الأوروبيين للآثار المصرية.
دروفيتي جامع نهم وتاجر ومهرب آثار مصرية:
برناردينو دروفيتي، شخصية مثيرة للجدل في عالم علم المصريات. كان معاصراً ومنافساً لهنري سولت (قنصل بريطانيا في مصر) وجيوفاني بلزوني (مغامر إيطالي في مصر)، وكلاهما كانا متورطين بعمق في جمع وتهريب الآثار المصرية. جمع دروفيتي مجموعات كبيرة من القطع الأثرية، التي باع إحداها لملك سردينيا في عام 1824م. هذه المجموعة موجودة الآن في متحف المصريات في تورينو. تضمنت هذه المجموعة بالفعل أكثر من خمسة آلاف قطعة بما في ذلك التماثيل (أحدها هو التمثال الشهير لرمسيس الثاني)، واللوحات، وموائد القرابين، والأشياء الخشبية والبرونزية، والمومياوات، والأثاث، والمجوهرات، ومواد أخرى وعدد كبير من البرديات. تم إعداد كتالوج للمجموعة بواسطة شامبليون حوالي عشرينيات القرن التاسع عشر. كانت مساهمات دروفيتي في مجال علم المصريات كبيرة، على الرغم من الطبيعة التنافسية والمثيرة للجدل أحياناً لعمله.
وقد استغل منصبه كقنصل لجمع مجموعات ضخمة من الآثار المصرية. بل قام بشراء الآثار من تجار الآثار المحليين، وأحيانًا عن طريق الحفر غير القانوني. لذا جمع مجموعات واسعة من القطع الأثرية، بما في ذلك التماثيل والتمائم والبرديات والنقوش. وتعد بردية تورينو من أهم القطع في المجموعة، حيث ساهمت بشكل كبير في فك رموز الهيروغليفية والتعرف على غالبية ملوك مصر القديمة. تم تهريب هذه الآثار من مصر بطريقة غير قانونية، مما يثير تساؤلات حول شرعية وجودها في متحف تورينو.
انتقادات موجهة إليه:
كانت طرق دروفيتي لجمع الآثار غالبًا مثيرة للجدل، وكان له سمعة غير جيدة بأنه لا يرحم تجاه جامعي الآثار الآخرين والمنقبين. على الرغم من ذلك، كانت مساهماته في علم المصريات كبيرة، وتظل مجموعاته موارد قيمة لدراسة مصر القديمة.
اُنتُقد دروفيتي بشدة لاستغلال موقعه الرسمي كدبلوماسي فرنسي لجمع الآثار، ولتعامله غير الأخلاقي مع تجار الآثار المحليين. وأسلوبه في جمع الآثار يعتبر مثيراً للجدل، حيث يعد مثالاً على استغلال الآثار لأغراض شخصية. ويعتبر دروفيتي أكبر لص آثار مصرية فقد جمع أكبر مجموعة من أوراق البردي وعرضها للبيع على فرنسا فرفضت، فباعها لملك سردينا بمبلغ 400 ألف ليرة إيطالية وقُدمت لمتحف تورينو. وضمت هذه الصفقة القذرة بردية تورينو وبها قوائم بأسماء ملوك الفراعنة. وفي عام 1836م أشتري منه متحف برلين مجموعة آثار متنوعة بمبلغ 30 ألف ليرة، ثم باع مجموعته الثالثة من الآثار لشارل العاشر بربع مليون فرنك والذي قدمها لمتحف اللوفر في باريس. والمجموعات الثلاث التي باعها دروفيتي تمثل أفضل وأروع الأثار المصرية في أوروبا بصفة عامة ومتحف اللوفر بصفة خاصة.
اتفاق اللصوص:
وكان اللص دروفيتي صاحب حظوة ونفوذ لدي والي مصر محمد علي الذي اعتمد على فرنسا لمساندته ضد إنجلترا. وعاصره في نفس المدة اللص الإنجليزي المتخفي أيضا خلف الحصانة الدبلوماسية المدعو “هنري سولت”. نجد دروفيتي يعقد معه اتفاقا مكتوبا لتقسيم مناطق النفوذ لنهب الآثار المصرية وينص الاتفاق أن تكون للص “”دروفيتي” الفرنسي آثار الضفة الشرقية لنهر النيل، وللص “سولت” الإنجليزي آثار الضفة الغربية للنيل ينقب كل منهما في منطقته بحثا عن الآثار التي تُباع بالذهب. ومن أساليب دروفيتي القذرة انه كان حينما يحصل على مجموعة من المزهريات وعددها كبير، كان يحطم نصفها حتى يرتفع ثمنها عند البيع، أيضا كان يحطم الطرف الهرمي المدبب للمسلات حتى يسهل نقلها. يُزعم أنه قام بالحفر غير القانوني في العديد من المواقع الأثرية. تم انتقاده لتهريب الآثار المصرية إلى أوروبا وخاصة فرنسا، وعلى الرغم من الانتقادات الموجهة إليه، فإن مجموعات دروفيتي تعتبر مصدرًا مهمًا لدراسة الحضارة المصرية القديمة. لكن لا يزال هناك جدل حول الطرق التي استخدمها دروفيتي في جمع مجموعاته الأثرية وبيعها.
تكريم أوربي لا مصري:
على الرغم من أن دروفيتي جمع مجموعات ضخمة من الآثار المصرية، إلا أنه لم يحظَ بتكريم رسمي في مصر. بل على العكس، تعرض لانتقادات واسعة بسبب أساليبه في جمع الآثار. لكنه حظي بتقدير أكاديمي في أوروبا، خاصة في إيطاليا، حيث تم انتخابه عضواً في أكاديمية تورينو للعلوم. هذا التكريم يعود إلى أهمية المجموعة الأثرية التي جمعها والتي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من التراث الثقافي الإيطالي. ولعل أكبر تكريم لدروفيتي هو إرثه العلمي والثقافي. فمجموعاته الأثرية الثلاث لا تزال محل دراسة وبحث، وهي مصدر قيم لفهم الحضارة المصرية القديمة.
نهاية مأساوية والوفاة:
ومن عجائب القدر أن هذا اللص دروفيتي أصيب بالجُنون في أواخر أيامه، وكأنها لعنة الفراعنة، وتم نقله لملجأ في تورينو ومات فيه غير مأسوف عليه. حيث توفي برناردينو في 9 مارس 1852م في مدينة تورينو الإيطالية عن عمر يناهز 76 عامًا ودفن في تورينو، المدينة التي احتضنت مجموعته الأثرية وأصبحت موطناً له في سنواته الأخيرة.



