دنيا ودين

حين تُزهر الأخلاق… يسكن السلام القلوب

الأخلاق بوابة الطمأنينة وبناء الإنسان والمجتمع

بقلم/ د. ابراهيم حسينى درويش

حين تزهر الأخلاق في عالمٍ تتسارع فيه الأحداث، وتتزايد فيه التحديات الاقتصادية والاجتماعية، ويعلو فيه ضجيج المصالح على صوت القيم، بات الإنسان المعاصر يعيش حالة من القلق والاضطراب النفسي والاجتماعي. ورغم التقدم المادي والتقني غير المسبوق، إلا أن السلام الداخلي يظل غائبًا عن كثير من القلوب، والاستقرار الاجتماعي يظل هشًّا في مجتمعات كثيرة.

وهنا يبرز سؤال جوهري: أين الخلل؟
إن الخلل الحقيقي لا يكمن في نقص الموارد ولا في ضعف الإمكانات، وإنما في تراجع منظومة الأخلاق التي تُعدّ الأساس المتين لبناء الإنسان واستقرار المجتمعات. فحين تُزهر الأخلاق في النفوس، يسكن السلام القلوب، وتستقيم العلاقات، وتُبنى الأوطان على قواعد راسخة.

الأخلاق جوهر الرسالات السماوية

لم تكن الأخلاق يومًا أمرًا هامشيًا في الدين، بل كانت دائمًا في صلب الرسالات السماوية، وجوهر الدعوات الإصلاحية. وقد جاء الإسلام ليؤكد هذه الحقيقة ويجعل الأخلاق محورًا أساسيًا في بناء الفرد والمجتمع.

يقول النبي ﷺ: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق» فجعل من تهذيب السلوك وتقويم النفس غايةً سامية، لا تقل شأنًا عن العبادات الظاهرة، بل إن العبادات في حقيقتها وسائل لترسيخ القيم الأخلاقية في السلوك اليومي.
فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والزكاة تُنمّي روح التكافل، والصيام يعلّم الصبر وضبط النفس، والحج يرسّخ المساواة والانضباط. وكلها تصب في نهر الأخلاق الذي يفيض بالخير والسلام.

السلام الاجتماعي ثمرة للأخلاق

السلام الاجتماعي لا يُفرض بالقوة، ولا يتحقق بالقوانين وحدها، مهما بلغت دقتها وعدالتها، وإنما ينبع أولًا من داخل الإنسان. فعندما يتحلى الأفراد بالصدق، والأمانة، والعدل، والرحمة، يصبح المجتمع أكثر تماسكًا وقدرة على تجاوز الخلافات.

الأخلاق تخلق بيئة يسودها الاحترام المتبادل، وتقلّ فيها النزاعات، وتُحلّ الخلافات بالحكمة لا بالعنف، وبالحوار لا بالصدام.
وكم من مجتمعات امتلكت القوانين الصارمة لكنها افتقدت السلم الاجتماعي، لأن الأخلاق غابت عن النفوس، فضعفت الثقة، وسادت الأنانية، وتفككت الروابط الإنسانية.

الأخلاق في العلاقات الإنسانية

العلاقات بين الناس هي المرآة الحقيقية للأخلاق. فالكلمة الطيبة، والابتسامة الصادقة، وحسن الاستماع، والوفاء بالعهد، كلها سلوكيات بسيطة في ظاهرها، عظيمة في أثرها. ومن يملك الأخلاق والأدب، يسكن في القلوب قبل أن يسكن في البيوت، ويترك أثرًا طيبًا لا تمحوه الأيام.

وقد قال الحسن البصري رحمه الله:
«استكثروا من الأصدقاء المؤمنين، فإن لهم شفاعة يوم القيامة»
والإيمان الحق لا يظهر في كثرة الشعارات، وإنما في صدق المعاملة، ونقاء القلب، وحسن الخلق مع القريب والبعيد.

الأخلاق وقت الشدائد

في أوقات الرخاء قد تتشابه الوجوه، لكن في أوقات الشدة تظهر المعادن. فالأزمات تفضح القيم الزائفة، وتُبرز الأخلاق الأصيلة.
حين يلتزم الإنسان بالأمانة وقت الحاجة، ويعفو عند المقدرة، ويتراحم مع الضعفاء، ويتحمل المسؤولية دون تهرب، يكون للأخلاق أعظم أثرها في تضميد الجراح وحفظ تماسك المجتمع.
إن المجتمعات التي تمتلك رصيدًا أخلاقيًا قويًا، تكون أقدر على مواجهة الأزمات الاقتصادية، والكوارث، والتحديات الفكرية، لأن أفرادها يشعرون بأنهم شركاء في المصير، لا خصوم في معركة مصالح.

الأخلاق وبناء الأجيال

لا يمكن الحديث عن مستقبل مشرق دون التركيز على غرس الأخلاق في نفوس الأجيال الناشئة. فالتربية الأخلاقية لا تقل أهمية عن التعليم الأكاديمي، بل هي الأساس الذي يُبنى عليه كل علم نافع.
فالطفل الذي يتعلم الصدق، واحترام الآخر، وتحمل المسؤولية، ينشأ مواطنًا صالحًا، قادرًا على الإسهام في بناء وطنه بوعي وانتماء.
وتبقى الأسرة والمدرسة والمؤسسات الدينية والإعلام شريكة في هذه المسؤولية، فبالتكامل بينها تُبنى منظومة قيم تحمي المجتمع من الانحراف والتفكك.

الأخلاق طريق النهضة الحقيقية

التاريخ يشهد أن الأمم لا تنهض بالقوة المادية وحدها، بل بالقيم التي تضبط استخدامها. وقد صدق الشاعر حين قال:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت … فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فالأخلاق هي الضامن الحقيقي لاستدامة التنمية، وعدالة التوزيع، وحسن إدارة الموارد، وهي السياج الذي يحفظ المجتمع من الانهيار مهما بلغت التحديات.

حين تزهر الأخلاق

إن الأخلاق ليست ترفًا فكريًا ولا شعارات تُرفع في المناسبات، بل هي ضرورة حياتية، وركيزة أساسية لكل استقرار نفسي واجتماعي.
وحين نعيد للأخلاق مكانتها في حياتنا اليومية، ونترجمها إلى سلوك عملي، نكون قد وضعنا أقدامنا على طريق السلام الحقيقي؛ السلام الذي يبدأ من القلب، وينعكس على البيت، ثم المجتمع، فالوطن بأسره.
وحين تُزهر الأخلاق… يسكن السلام القلوب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights