مقالاتحضارة وتاريخسلايدر

حق المعرفة والملكية الفكرية في مصر القديمة (1)

كتب د. عبد الرحيم ريحان

في إطار ما أثير مؤخرًا بخصوص تحويل أحد الشباب المبدع إلى النيابة التي أفرجت عنه بخصوص موضوع الملكية الفكرية بدأ الشباب يتساءل على وسائل التواصل الاجتماعى عن مفهوم الملكية الفكرية التي لم تصادفه في دراسة أو أحاديث مفصّلة عنها في وسائل الإعلام والتي بدأت بالفعل منذ إنشاء الدولة لجهاز الملكية الفكرية برئاسة شخصية وطنية عظيمة هو الدكتور هشام عزمى له الفضل في حضور الملكية الفكرية في الإعلام المصرى.

وفى ضوء دور حملة الدفاع عن الحضارة المصرية التوعوى قررت الحملة نشر سلسلة من المقالات لتبسيط مفهوم الملكية الفكرية للشباب نبدأها بالملكية الفكرية وحق المعرفة في مصر القديمة
حين نتأمل حضارة مصر القديمة لا نستطيع أن نفصل إنجازاتها العمرانية والطبية والفلكية والدينية عن الجذر الذي أنبتها جميعًا وهو المعرفة وكيفية الحفاظ عليها لتستمر عبر الأجيال حتى وصلت إلينا نتاج تسجيل هذه المعارف كحق ملكية فكرية للمصريين منذ فجر التاريخ.

التدوين لحفظ الحقوق
يشير الدكتور قاسم زكى أستاذ الوراثة المتفرغ بكلية الزراعة بجامعة المنيا وعضو اتحاد كتاب مصر إلى أدراك المصري القديم منذ البدايات أن العقل أداة الخلود وأن تسجيل الأفكار وتراكم العلوم هو الطريق إلى السيادة على الطبيعة والخلود في الذاكرة ومن هنا يمكن أن نصف هذه الحضارة بأنها قامت على عبقرية المعرفة التى لم تُجمع صدفة بل كانت نتاج تأمل وتجريب وتدوين ونقل من جيل إلى آخر وذلك لحفظ حقوق الملكية الفكرية لهم وتناقلها من جيل إلى جيل.

ولم يتعامل المصري القديم مع المعرفة كترف للنخبة بل كضرورة لإدارة الحياة فالمعرفة كانت حاضرة في كل تفاصيل الوجود في بناء المنزل وفي تقويم الزراعة وفي تنظيم العمل وفي طقوس الدفن وفي اختيار الألوان وحتى في نسق الكتابة فلم تكن هناك فجوة بين الفكر والتطبيق بل كان العمل امتدادًا للمعرفة.

الابتكار
ينوه الدكتور قاسم زكى إلى ابتكار قدماء المصريين نظمًا معرفية دقيقة لإدارة الدولة والحياة اليومية مثل نظم المساحة والحساب والطب والفلك والقانون والهندسة وعلم النفس الديني وظهرت مدارس فكرية متخصصة في المعابد تُدرَّس هذه المعارف بشكل منهجي.
وتجسّد هذا فيما عُرف ببيت الحياة (بر عنخ) وهي مؤسسات تعليمية وثقافية ملحقة بالمعابد الكبرى وُجدت منذ الدولة القديمة وازدهرت خلال الدولة الوسطى والحديثة كانت مراكز لتعليم الكتبة وتدريبهم على فنون الكتابة والحساب ونسخ النصوص وحفظ الوثائق.

في هذه المؤسسات نشأ جيل من الكتبة المتخصصين الذين حفظوا لنا تراث الحضارة ودوّنوا تفاصيل الحياة والإدارة والفكر وأسهموا في نقل العلوم عبر الأجيال وكانت الكتابة الهيروغليفية من أبرز مظاهر عبقرية المعرفة إذ استطاع المصريون من خلالها التعبير عن الأفكار المجردة والرموز الدينية والمعلومات الإدارية بل والتعبير الشعري والفني وتطورت الكتابة إلى أشكال أخرى مثل الهيراطيقية والديموطيقية لتناسب متطلبات العصر وسرعة التدوين.

وما يثير الإعجاب أن المصريين طوّروا نظامًا لغويًا مرنًا يحتوي على أكثر من 700 رمز في فترات معينة يجمع بين الدقة التصويرية والاختزال الرمزي ما مكّنهم من تسجيل أعمق المفاهيم الفلسفية والدينية كما في متون الأهرام ونصوص التوابيت وكتاب الموتى.

براءة الاختراع
يشير الدكتور قاسم زكى إلى أن معارف المصريين ابتكارات قدماء المصريين حفظوا براءة اختراعها بتدوينها كوثيقة ملكية فكرية عرفنا من خلالها تقدمهم في الفلك بفهم علاقة الشمس بالقمر ودورة النجوم وحركة الكواكب واستخدموا هذه المعرفة لإنشاء تقويم شمسي دقيق قسموا فيه السنة إلى 365 يومًا و12 شهرًا، كل شهر 30 يومًا مع 5 أيام إضافية تُعرف بأيام الآلهة.

اعتمدوا على نجم الشعري اليمانية (سيريوس) لتحديد بدء فيضان النيل وربطوا بين الزمن والدين والزراعة فجعلوا لكل فصل طقوسه ولكل مناسبة توقيتها الكوني وهذا ما مكّنهم من تخطيط زراعي وهندسي دقيق يوازي ما نراه في النظم الحديثة.
وكذلك ابتكارات القدماء في الطب والتشريح تجسّد في البرديات الطبية مثل بردية إيبرس وبردية إدوين وعرف المصريون أمراض القلب والمعدة والعين والأسنان ودوّنوا مئات الوصفات الطبية وميّزوا بين العلاج الجراحي والعلاج بالأعشاب والطقوس الدينية كما أظهروا فهمًا مذهلًا للتشريح مستندين إلى خبراتهم في التحنيط وكانت هناك تخصصات طبية دقيقة مثل طبيب العيون وطبيب البطن وطبيب الأسنان كما ظهر مفهوم الطبيب العائلي.

وارتبطت المعرفة بالحساب والمساحة بشكل مباشر ببناء الأهرامات والمعابد والري وتوزيع الأراضي وابتكروا نظامًا عشريًا مبنيًا على الرقم 10 واستخدموا رموزًا تصويرية للأعداد حتى المليون واخترعوا وحدات للوزن والمسافة والحجم.
وفي الهندسة تمكنوا من قياس الزوايا والميل والمساحات واستطاعوا تصميم أبنية عملاقة بحسابات دقيقة ظلت موضع انبهار حتى اليوم وقد مهدوا الطريق لاحقًا لعلوم الإغريق والرومان الذين اعترفوا بتفوق المصريين علميًا.
واتضحت براعة القدماء في حفظ المعرفة وتوثيقها من ولادة المولود إلى غلة الحقول إلى حسابات المعابد إلى العقود إلى وصفات الدواء إلى أحكام القضاء إلى أناشيد الحكمة وبهذا شكّلت جدران المعابد ولفائف البردي والتوابيت والسجلات ذاكرة حية لحضارة لم تترك أمرًا للمجهول.

ولم تنفصل المعرفة عن الأخلاق فالكتابة كانت تُستخدم في تعليم القيم والحساب في منع الظلم والطب في الرحمة والفلك في التقويم الديني وتكفي وصايا الحكماء مثل بتاح حتب وآني وأمنموب لتُظهر كيف كانت المعرفة في خدمة العدالة والتربية
باعتبارها مشروعًا متكاملاً لبناء الإنسان والحضارة نُسجت في تفاصيل الحياة وعبّرت عن فهم عميق للكون والذات والمجتمع.
ونستلهم من التراث المصري القديم الإيمان العميق بقوة العقل وقدسية الكلمة وأهمية التوثيق والتسجيل لكل الموروثات الحضارية عبر العصور لضمان حقوق ملكية فكرية لها.

محتويات المقال وخدمات إضافية

انتقل إلى أقسام المقال:

خدمات ومتابعة إضافية:

كن جزءًا من مجتمعنا! انضم إلينا وكن أول من يعلم بآخر المستجدات:


فيسبوك
فيسبوك


يوتيوب
يوتيوب


واتساب
واتساب

لا تفوت آخر الأخبار والمستجدات من “الدليل نيوز” تابع أسعار العملات العالمية:

ضبط 577 قطعة أثرية ناتج الحفر خلسة جرس إنذار “الحفر والتهريب مستمر”تابع آخر أسعار الدولار والعملات العالمية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights