
بقلم / دكتور/ قاسم زكي
ضمن سلسلة (أشهر لصوص الآثار المصرية)، حلقة (1)
من بين الحضارات التي عرفها التاريخ الإنساني، تظل مصر أم الدنيا حالة فريدة تستحق التأمل. فهذه الأرض لم تكن مجرد دولة عابرة أو مملكة إقليمية محدودة النفوذ، بل تحولت منذ فجر التاريخ إلى أقدم و أطول إمبراطورية في التاريخ عرفتها البشرية، قبل أن تصبح في عصور لاحقة أطول مستعمرة خضعت للسيطرة الأجنبية قرونًا طويلة. هذا التناقض المدهش بين القوة والسيادة من ناحية، وبين التبعية والاستعمار من ناحية أخرى، يعكس طبيعة مصر وموقعها وأهميتها في ميزان الحضارة العالمية.
أولاً: مصر الإمبراطورية الأطول عمرًا
عندما نتأمل تاريخ مصر القديمة نجد أنها ليست مجرد مملكة موحدة منذ عام 3100 ق.م، بل مشروع حضاري وإمبراطوري امتد لنحو ثلاثة آلاف عام. هذه المدة الزمنية الهائلة لا تقارن بأي إمبراطورية أخرى، إذ لم تستطع روما أو فارس أو الصين القديمة الاستمرار بنفس الاستقرار والهوية الواضحة طوال هذه القرون.
- الوحدة السياسية: نجح المصريون في توحيد الدلتا والصعيد تحت حكم مركزي منذ عهد الملك مينا (نارمر)، وأرسوا تقليدًا للحكم استمر في جوهره رغم تغير الأسرات.
- التوسع الخارجي: في الدولة الحديثة (الأسرة الثامنة عشرة)، بلغت مصر أوج قوتها الإمبراطورية، فامتد نفوذها العسكري والسياسي إلى الشام شمالاً، وإلى النوبة والسودان جنوبًا، وأصبحت لاعبة أساسية في السياسة الدولية آنذاك.
- الثقافة والهوية: حافظ المصريون على هوية متماسكة؛ لغة واحدة، دين متطور، عمارة وفنون بقيت شاهدة على وحدة الأمة، وهو ما جعلها أطول إمبراطورية متجانسة ثقافيًا وحضاريًا.
إن استمرار هذه الإمبراطورية لم يكن فقط بفضل الجيش أو الاقتصاد، بل نتيجة وعي المصريين برسالتهم الحضارية، التي تجلت في فكرة الماعت (العدالة والانسجام)، باعتبارها أساس الحكم والتنظيم الاجتماعي.
ثانيًا: مصر كأطول مستعمرة في التاريخ
وإذا كانت مصر قد عرفت أوج القوة والسيادة، فإنها في المقابل دفعت ثمن موقعها الجغرافي وثرواتها لتصبح مطمعًا للغزاة، حتى تحولت إلى أطول مستعمرة في تاريخ العالم.
- الاحتلالات القديمة: منذ القرن السادس ق.م سقطت مصر تحت الاحتلال الفارسي، ثم جاء المقدونيون والبطالمة والرومان والبيزنطيون. ورغم فترات قصيرة من الاستقلال النسبي، إلا أنها عاشت لقرون طويلة تحت سيطرة إمبراطوريات أجنبية.
- الحقبة الإسلامية والعثمانية: بعد الفتح العربي عام 641م، أصبحت مصر جزءًا من دولة الخلافة، ثم انتقلت تبعيتها إلى ولاة العباسيين، فالفاطميين، فالمماليك، وأخيرًا العثمانيين الذين حكموها لأربعة قرون كاملة (1517–1914م).
- الاستعمار الحديث: لم تنتهِ التبعية عند هذا الحد، بل تواصلت عبر الاحتلال الفرنسي القصير (1798–1801م)، ثم البريطاني الطويل (1882–1952م)، ليبلغ مجموع فترات السيطرة الأجنبية على مصر ما يزيد عن ألفي عام.
هذا الامتداد الزمني يجعل مصر بحق أطول مستعمرة في التاريخ، إذ لم تعرف دولة أخرى مثل هذا التسلسل المستمر من الاحتلالات المتعاقبة. ولعل الفترة الثانية (فترة الاستعمار) هي التي تم فيها أكبر نهب لآثار دولة في التاريخ.
ثالثًا: دلالات هذه المفارقة
إن اجتماع صفة “أطول إمبراطورية” مع صفة “أطول مستعمرة” في بلد واحد يكشف عن عدة دلالات:
- الأهمية الجغرافية: موقع مصر بين قارات العالم جعلها مطمعًا دائمًا، وركيزة في السيطرة على طرق التجارة الدولية.
- غنى الموارد: النيل وأرضه الخصبة جعلت مصر قادرة على تمويل إمبراطورياتها، وفي الوقت نفسه جعلها هدفًا دائمًا للغزاة.
- القوة والضعف الحضاري: حينما كان المجتمع موحدًا ومتماسكًا قاد العالم، وحينما ضعفت الوحدة الداخلية، تحولت البلاد إلى فريسة للاستعمار.
- الهوية المستمرة: رغم تعاقب الغزاة، لم تفقد مصر هويتها. فقد اندمج الغزاة في ثقافتها أكثر مما استطاعوا تغييرها، وظلت الشخصية المصرية راسخة عبر آلاف السنين.
الخاتمة
إن قصة مصر تكاد تكون ملحمة إنسانية فريدة: فهي أول من أسس فكرة الإمبراطورية المنظمة، وآخر من خرج من عباءة الاستعمار الطويل. وبين المجد والخذلان، والسيادة والتبعية، حافظت مصر على مكانتها كأرض الحضارة والخلود. لذلك يصدق القول بأنها بحق أطول إمبراطورية وأطول مستعمرة في التاريخ، وهو ما يمنحها مكانة خاصة في ضمير الإنسانية، ويجعل تجربتها درسًا عميقًا في فهم دور الجغرافيا والسياسة والثقافة في صناعة التاريخ.
وسوف نتابع نشر تلك السلسلة حسب التسلسل التاريخي وأيضًا الموضوعات وتقسيمها، فإلى اللقاء مع الحلقة الثانية بإذن الله.
محتويات المقال وخدمات إضافية
انتقل إلى أقسام المقال:
خدمات ومتابعة إضافية:
كن جزءًا من مجتمعنا! انضم إلينا وكن أول من يعلم بآخر المستجدات:
لا تفوت آخر الأخبار والمستجدات من “الدليل نيوز” تابع أسعار العملات العالمية: