حين يختلّ الميزان… كيف يصنع التطرف عقلًا مضطربًا ومجتمعًا قلقًا؟
كيف يصنع التطرف عقلاً مضطرباً؟ د. إبراهيم درويش يكتب عن "اختلال الميزان"
بقلم / د. إبراهيم درويش
في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث، وتشتد فيه الضغوط، ويعلو فيه الضجيج على صوت العقل، أصبح التطرف أحد أخطر التحديات التي تهدد استقرار الإنسان والمجتمع. وليس التطرف وليد لحظة، ولا نتاج فكرة عابرة، بل هو ثمرة خللٍ عميق في ميزان التفكير، وانحرافٍ تدريجي عن جادة الاعتدال التي جعلها الله أساسًا للحياة السوية.
فالإنسان لا يولد متطرفًا، وإنما تبدأ القصة حين يظن أن رأيه هو الصواب المطلق، وأن الحقيقة محصورة فيما يرى ويفهم، وأن كل من يخالفه عدو يجب إقصاؤه لا إنسانًا يُحاوَر. ومع غياب الحوار، وتعطّل التفكير المنهجي، يتحول اليقين الصحي إلى تعصّب، ويصبح الإيمان غلوًا، وتتحول القوة إلى عنف، فيضيع الميزان الداخلي، وتبدأ رحلة الاضطراب.
وقد جعل الله الوسطية صمام أمان للفرد والأمة، فقال تعالى:
﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾،
فالوسطية ليست ضعفًا ولا تمييعًا، بل هي قمة النضج العقلي والاتزان النفسي.
ما التطرف؟
التطرف هو خروج الإنسان عن حدّ الاعتدال في الفكر أو السلوك أو المشاعر، ميلًا إلى الإفراط أو التفريط. هو عقل لا يرى إلا لونين: أبيض أو أسود، حق مطلق أو باطل مطلق، صديق كامل أو عدو كامل. وهذا النمط من التفكير يتجاهل طبيعة الحياة التي تقوم على التدرج، والاجتهاد، واحتمال الخطأ والصواب.
وقد حذّر النبي ﷺ من الغلو فقال:
«إيّاكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو».
فالتطرف ليس تدينًا صادقًا، ولا التزامًا حقيقيًا، بل هو اختلال في الفهم، وانغلاق في الرؤية، وخلل في ميزان النفس.
التطرف… ظاهرة متعددة الوجوه
كثيرون يحصرون التطرف في الدين أو السياسة، بينما الواقع يؤكد أنه أوسع وأخطر، ويتسلل إلى تفاصيل الحياة اليومية من امثلته:
١- التطرف الديني يظهر حين تُؤخذ النصوص بغير علم، أو يُجزّأ الدين، أو يُحتكر الحق، فيظن صاحبه أنه يحسن صنعًا وهو يسيء إلى جوهر الدين القائم على الرحمة والحكمة.
٢- التطرف الفكري حين يرفض الإنسان كل رأي مخالف، ويغلق عقله عن النقد والمراجعة، ويعيش أسير فكرة واحدة لا تقبل النقاش.
٣- التطرف السلوكي وهو الأخطر في واقعنا المعاصر، ويتجلى في الإدمان بأنواعه، والتنمر، والبلطجة، والفحش في القول، والانفلات الأخلاقي. فالشخص المتطرف سلوكيًا لا يعرف التوازن، إما اندفاع بلا ضوابط أو انفلات بلا وازع.
٣- التطرف الأسري حين يتحول البيت إلى ساحة قهر أو إهمال، أب متسلط أو غائب، أم قاسية أو منهكة، فينشأ الأبناء مشوَّشي النفس، ناقصي الأمان.
٤- التطرف الوظيفي والإداري حين تُمارس السلطة بلا رحمة، أو تُهمل المسؤولية بلا ضمير، فتختل المؤسسات وتفقد إنسانيتها.
آثار التطرف على الفرد والمجتمع
أول ضحايا التطرف هو المتطرف نفسه؛ يعيش ضيقًا داخليًا، قلقًا دائمًا، وعلاقات هشة، لأن الناس بطبعهم ينفرون من العنف والتصلب. وقد قال ابن القيم: “ما دخل العنف في شيء إلا شانه”.
أما الأسرة، فيخنقها التطرف، ويزرع الخوف أو التمرد، فتفقد السكينة التي جعلها الله أساس البيوت.
وفي المجتمع، يؤدي التطرف إلى الانقسام، وتعطيل الحوار، وانتشار العنف اللفظي والسلوكي، ويصبح عائقًا حقيقيًا أمام التنمية، لأن المجتمعات لا تُبنى بالعقول المغلقة ولا بالقلوب القاسية.
لماذا ينتشر التطرف؟
هناك عدة أسباب التطرف متعددة، أبرزها:
١- الجهل وضعف الوعي، فالعقل الخالي من المعرفة أرض خصبة للانحراف.
٢- التربية الخاطئة بين قسوة مفرطة أو تساهل مفرغ من القيم.
٣- غياب مهارات الحوار، فيلجأ الفرد إلى الصراخ بدل النقاش.
٤- الأزمات النفسية من إحباط وشعور بالدونية ورغبة في إثبات الذات.
٥- الصحبة السيئة، فكل تطرف مُعدٍ.
٦- سوء فهم النصوص الدينية دون علم أو مقاصد.
٧- غياب القدوة الصالحة في البيت والمدرسة والإعلام.
كيف نواجه التطرف ونحمي المجتمع؟
مواجهة التطرف لا تكون بالقمع وحده، ولا بالشعارات، بل بمعالجة الجذور:
١- إعادة الاعتبار للوسطية قولًا وسلوكًا.
٢- نشر الوعي والتعليم وبناء العقل النقدي.
٣- تنمية ثقافة الحوار واحترام الاختلاف.
٤- احتواء المتطرف بالحكمة لا الإقصاء، فالعزل يزيده تصلبًا.
٥- مواجهة التطرف السلوكي عبر ضبط الخطاب العام، ومحاربة التنمر، وتجفيف منابع الإدمان.
٦- إصلاح الخطاب الديني ليعكس روح الرحمة والتيسير.
٧- بناء بيئة مجتمعية عادلة يشعر فيها الإنسان بالكرامة والانتماء.
ختامًا
إن أخطر ما يصيب الإنسان أن يختلّ ميزانه الداخلي، فيتحول من إنسان متزن إلى مشروع صدام مع نفسه ومع الآخرين. فالتطرف ليس قوة، بل ضعف، وليس بطولة، بل هروب من مواجهة الذات. وما أحوج مجتمعاتنا اليوم إلى عقول مرنة، وقلوب رحيمة، ونفوس متوازنة.
فالاعتدال هو طريق النجاة، وبه تُبنى الأسر، وتستقر المجتمعات، وتنهض الأمم.
اللهم ارزقنا الاعتدال في القول والعمل، واحفظ مجتمعاتنا من الغلو والتطرف، واجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، يا رب العالمين.
اقرأ أيضًا للدكتور إبراهيم درويش
– للتعرف على المنهج النبوي الصحيح في بناء الشخصية السوية:
العقلية المحمدية.. منهج حياة وبناء الإنسان
– حول كيفية استثمار تجارب الحياة المؤلمة لبناء الوعي:
من لا يتألم لا يتعلم.. فلسفة البناء من رحم المعاناة
روابط خارجية ذات صلة
– المصدر الرسمي لمكافحة الأفكار المتطرفة:
دار الإفتاء المصرية




