ثقافة وفن

«زي النهاردة».. وفاة الفنان عمر الحريري (16 أكتوبر 2011): رحلة نصف قرن من الإبداع

«زي النهاردة» في السادس عشر من أكتوبر عام 2011، رحل عن عالمنا قامة فنية مصرية وعربية أصيلة، الفنان القدير عمر الحريري، تاركاً خلفه إرثاً فنياً عظيماً يمتد لأكثر من نصف قرن. لم يكن الحريري مجرد ممثل، بل كان فناناً شاملاً جسد معاني التنوع والاحترافية في كل عمل قدمه، من خشبة المسرح إلى شاشات السينما والتلفزيون، وصولاً إلى فن الأداء الصوتي الذي أضفى به لمسة خاصة على شخصيات خالدة. كان الحريري بمثابة موسوعة فنية متحركة، استطاع ببراعته وتفانيه أن يحفر اسمه بأحرف من نور في ذاكرة الجماهير المصرية والعربية. تميز بقدرته الفريدة على التلون بين الأدوار الكوميدية والتراجيدية، وإتقانه لشخصيات مختلفة، من الشاب اليافع إلى الرجل الوقور، ومن الشخصية الطيبة إلى الشريرة أحياناً، ما جعله واحداً من أكثر الممثلين المحبوبين والمحترفين في تاريخ الفن العربي. لم تقتصر موهبته على التمثيل الصامت، بل تجاوزتها إلى قوة الأداء الصوتي الذي أضاف أبعاداً جديدة للشخصيات التي قام بتجسيدها، مثل شخصية جراتسياني في الفيلم العالمي الشهير “عمر المختار” بالنسخة العربية. رحيله في مثل هذا اليوم قبل 14 عاماً، لم يكن نهاية لمسيرته، بل بداية لتخليد اسمه كأحد عمالقة الفن الذين لا يغيبون عن الذاكرة. مسيرته الفنية الحافلة بالبصمات الخالدة تظل مصدر إلهام للأجيال الجديدة من الفنانين، ومرجعاً مهماً لكل من يدرس تاريخ الفن في مصر والوطن العربي. إن التنوع في أدواره وقدرته على الوصول إلى قلوب الملايين هو ما يجعله فناناً استثنائياً بحق.

عمر الحريري
صورة للفنان الراحل عمر الحريري، الذي أثرى الساحة الفنية بأعماله.

بدايات موهبة صقلتها خشبة المسرح

ولد الفنان عمر الحريري في الثاني عشر من فبراير عام 1926، في القاهرة، وبدأت تتضح ملامح موهبته الفنية مبكراً. كان شغفه بالتمثيل واضحاً منذ صغره، مما دفعه إلى صقل هذه الموهبة بالدراسة الأكاديمية. التحق بالمعهد العالي للتمثيل الذي كان بمثابة منارة للنجوم في تلك الحقبة، وتخرج فيه عام 1947. لم يكن تخرجه نهاية المطاف، بل كان بداية لمسيرة فنية حافلة بالجهد والعمل الدؤوب. بدأت مسيرته المهنية الحقيقية على خشبة المسرح القومي، الذي يعتبر المعقل الأساسي للفن المسرحي الجاد في مصر. في المسرح القومي، قدم الحريري عدة مسرحيات ناجحة، أظهر فيها قدراته التمثيلية المبكرة. هذه الفترة المسرحية كانت حجر الزاوية في بناء شخصيته الفنية، حيث اكتسب الخبرة والتمرس، وتفاعل مباشرة مع الجمهور، مما صقل لديه مهارات الأداء المباشر والارتجال. لم يقتصر عمله على المسرح القومي، بل تنقل بين عدة مسارح أخرى، مما أتاح له الفرصة للتعاون مع كبار المخرجين والممثلين في عصره. كان من أبرز من اكتشف موهبته وقدمه للجمهور لأول مرة على نطاق واسع الفنان الكبير يوسف وهبي، الذي آمن بقدرات الحريري الفنية وأشركه في عدد من مسرحياته. هذه المرحلة كانت بالغة الأهمية، حيث وضعت عمر الحريري على الطريق الصحيح نحو الشهرة والنجومية، وأعدته للانتقال إلى عالم السينما بثقة وخبرة.

الانتقال إلى الشاشة الكبيرة: بصمات سينمائية لا تُنسى

شكلت السينما محطة فارقة في مسيرة عمر الحريري الفنية، حيث كان أول ظهور سينمائي له في عام 1950 من خلال فيلم “الأفوكاتو مديحة” أمام النجمة مديحة يسري. هذا الدور الأول كان بمثابة بوابة ليتعرف عليه الجمهور السينمائي، وسرعان ما توالت عليه الأدوار التي رسخت مكانته كفنان قادر على تجسيد شخصيات متنوعة.
تضمنت قائمة أعماله السينمائية العديد من الأفلام التي أصبحت علامات في تاريخ السينما المصرية:

  • “الآنسة حنفي” (1954): يُعد هذا الفيلم الكوميدي واحداً من كلاسيكيات السينما المصرية. جسد فيه الحريري دوراً مهماً ساهم في نجاح الفيلم وشهرته. الفيلم، الذي ناقش قضايا اجتماعية بأسلوب فكاهي، أظهر قدرة الحريري على تقديم الكوميديا الراقية والمواقف الضاحكة ببراعة.
  • “الوسادة الخالية” (1957): يعتبر هذا الفيلم الرومانسي من أشهر الأفلام التي تناولت قصص الحب في السينما المصرية. رغم أن الدور الرئيسي كان للفنان عبد الحليم حافظ، إلا أن عمر الحريري أضاف بعداً خاصاً للعمل بتمثيله المتقن، الذي نال استحسان النقاد والجمهور على حد سواء، ليصبح جزءاً لا يتجزأ من نجاح هذا العمل الخالد.
  • “سيدة القصر” (1958): شارك الحريري في هذا الفيلم إلى جانب النجمة فاتن حمامة، مقدماً دوراً يعكس قدرته على التنوع والعمل مع كبار النجوم. الفيلم كان له تأثير كبير في تلك الفترة، وأظهر نضج الحريري الفني.
  • “سكر هانم” (1960): عاد الحريري إلى الكوميديا في هذا الفيلم الشهير، الذي تحول لاحقاً إلى مسرحية ناجحة. قدم فيه دوراً كوميدياً لا يزال في الذاكرة، مما أكد على موهبته الفريدة في هذا النوع من الأدوار.
  • “الناصر صلاح الدين” (1963): في هذا العمل التاريخي الضخم، جسد الحريري شخصية ذات أبعاد تاريخية، مما أثبت قدرته على التقمص الجاد والمتقن لشخصيات تختلف عن أدواره الكوميدية الخفيفة. الفيلم كان واحداً من أضخم الإنتاجات السينمائية في تاريخ مصر، ودور الحريري فيه كان شاهداً على تنوعه الفني.
  • أفلام أخرى بارزة: شارك في أفلام مثل “أم رتيبة” (1959) الذي أظهر فيه جانباً اجتماعياً وإنسانياً، و”الرباط المقدس” (1960)، و”العتبة الخضراء” (1959) الذي يعد من كلاسيكيات الكوميديا السوداء، و”العذاب امرأة” (1977)، و”قاتل ما قتلش حد” (1979)، “معالي الوزير” (2002) و”الرجل الغامض بسلامته” (2010)، الذي كان من آخر أعماله السينمائية، ليختتم به مسيرة حافلة بالإنجازات على الشاشة الكبيرة. كل هذه الأعمال أثرت المكتبة السينمائية المصرية وأكدت على مكانة الحريري كفنان متكامل.

الدراما التلفزيونية: حضور متواصل وعطاء غزير

لم تقتصر إسهامات عمر الحريري على السينما والمسرح فحسب، بل امتدت لتشمل الدراما التلفزيونية، حيث كان له حضور متواصل وعطاء غزير على مدار عقود. شارك في عدد كبير من الأعمال التلفزيونية المتنوعة، بدءاً من المسلسلات الدينية التي كان لها صدى واسع في المجتمع المصري والعربي، حيث ساهم في ترسيخ القيم والأخلاق من خلال أدواره الهادفة. كما شارك في العديد من المسلسلات الدرامية التي تنوعت بين الاجتماعي والتاريخي والكوميدي، مما أتاح له فرصة إظهار قدراته التمثيلية المتعددة.

  • فوازير رمضان وألف ليلة وليلة (شريهان): في ثمانينيات القرن الماضي، كان عمر الحريري جزءاً لا يتجزأ من ظاهرة فوازير رمضان الشهيرة، وتحديداً في فوازير “ألف ليلة وليلة” عام 1985 مع النجمة شريهان. هذه الأعمال كانت تحظى بمتابعة جماهيرية واسعة خلال الشهر الكريم، وقد أضاف الحريري إليها لمسة خاصة بخفة ظله وأدائه المتقن، مما جعله جزءاً لا يُنسى من ذكريات جيل كامل.
  • “شيخ العرب همام”: جسد في هذا المسلسل التاريخي شخصية والد همام شيخ العرب، مقدماً أداءً قوياً ومؤثراً يعكس خبرته الكبيرة في تجسيد الشخصيات التاريخية ذات العمق. المسلسل كان من الأعمال الضخمة التي حظيت بإشادة نقدية وجماهيرية، ودور الحريري فيه كان محورياً في بناء الأحداث.
  • “ساكن قصادي”: يُعد هذا المسلسل الكوميدي واحداً من أبرز أعماله التلفزيونية وأكثرها شعبية. شارك فيه إلى جانب النجمين الراحلين محمد رضا وسناء جميل. تميز المسلسل بقصصه الخفيفة والاجتماعية التي لامست قلوب المشاهدين، وقدرة الحريري على تقديم الكوميديا الهادئة والذكية كان له دور كبير في نجاحه واستمراريته في الذاكرة الجمعية.
  • مسلسلات دينية وتاريخية أخرى: كانت له مشاركات مميزة في مسلسلات تاريخية ودينية مثل “عمر بن عبدالعزيز” و”لا إله إلا الله” الذي قدم منه أكثر من ثلاثة أجزاء. هذه الأعمال أظهرت جانباً آخر من موهبته، حيث جسد شخصيات تاريخية مهمة بدقة وإتقان، مما أكسبه احترام الجمهور والنقاد على حد سواء. حضوره التلفزيوني المستمر جعله وجهاً مألوفاً ومحبوباً في كل بيت عربي.

المسرح: قمة الإبداع ومسرحيات خالدة

لا يمكن الحديث عن مسيرة عمر الحريري الفنية دون التوقف طويلاً عند إسهاماته في المسرح، الذي كان نقطة انطلاق موهبته ومجالاً لتألقه الأكبر. قدم الحريري على خشبة المسرح عدداً من الأعمال التي تُصنف ضمن كلاسيكيات المسرح الكوميدي في مصر، وبعضها ما زال يُعرض ويُشاهد حتى يومنا هذا، بفضل الأداء الأسطوري للنجوم الذين شاركوا فيها.

  • “شاهد ما شافش حاجة”: تُعد هذه المسرحية التي قدمها إلى جانب الزعيم عادل إمام في عام 1976، واحدة من أيقونات المسرح المصري. جسد فيها عمر الحريري دور “شريف بيه” وكيل النيابة، الذي يحاول إقناع “سرحان عبد البصير” (عادل إمام) بأنه شاهد جريمة قتل. الأداء الكوميدي الساخر للحريري وتفاعله مع عادل إمام خلق ثنائياً لا يُنسى، وأصبحت جمل وحوارات المسرحية جزءاً من الثقافة الشعبية المصرية. دور الحريري في هذه المسرحية لم يكن مجرد دور ثانوي، بل كان ركيزة أساسية في بناء الأحداث والمواقف الكوميدية، مما أكد قدرته على الوقوف بثقة أمام نجم بحجم عادل إمام.
  • “الواد سيد الشغال”: في عمل مسرحي آخر لا يقل أهمية عن سابقه، شارك عمر الحريري مرة أخرى مع عادل إمام في مسرحية “الواد سيد الشغال”. قدم فيها دوراً مميزاً يعكس العلاقة بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، والمواقف الكوميدية التي تنشأ عن هذه التفاعلات. هذه المسرحية أيضاً حفرت مكانها في تاريخ المسرح المصري كواحدة من أنجح وأشهر الأعمال، وأثبتت قدرة الحريري على تقديم أدوار داعمة قوية تساهم في نجاح العمل ككل.
  • “منور يا باشا” و”سكر هانم” (المسرحية): إلى جانب هذه الأعمال الكبرى، شارك الحريري في مسرحيات أخرى مثل “منور يا باشا” ومسرحية “سكر هانم” التي كانت مقتبسة من الفيلم الذي شارك فيه سابقاً. هذه المسرحيات أظهرت أيضاً مرونته الفنية وقدرته على الإبداع في أدوار متنوعة، سواء كانت كوميدية بحتة أو تحمل أبعاداً اجتماعية. مسيرته المسرحية كانت غنية بالتجارب التي أضافت الكثير إلى رصيده الفني وجعلته واحداً من رموز المسرح المصري.

الأداء الصوتي: بصمة عالمية

لم تقتصر مواهب عمر الحريري على التمثيل أمام الكاميرا أو على خشبة المسرح، بل امتدت لتشمل الأداء الصوتي، حيث أضفى بصوته المميز على شخصيات عالمية بعداً خاصاً في النسخ المدبلجة. من أبرز هذه الأعمال تجسيده لشخصية “جراتسياني” في النسخة الناطقة بالعربية من الفيلم العالمي “عمر المختار” (Lion of the Desert). هذا الدور الصوتي أظهر قدرته على التعبير عن الشخصيات بقوة وعمق من خلال صوته فقط، مما يبرز مدى احترافيته وتعدد مواهبه الفنية. الأداء الصوتي يتطلب مهارات خاصة في التحكم بالصوت والنبرة والانفعالات، وهو ما أتقنه الحريري ببراعة، ليترك بصمة لا تُنسى حتى في أعمال لم يظهر فيها بشخصه.

وفاته والإرث الخالد

وافت المنية الفنان عمر الحريري «زي النهارده» في السادس عشر من أكتوبر عام 2011، عن عمر يناهز 85 عاماً، بعد مسيرة فنية حافلة بالعطاء والإنجازات. رحل الحريري جسداً، لكن أعماله ستبقى خالدة في ذاكرة الأجيال. كان يتمتع بسمعة طيبة في الوسط الفني، وكان معروفاً باحترافيته وتواضعه واحترامه لمهنته وزملائه. لم يتوقف عن العمل الفني حتى سنواته الأخيرة، مما يدل على عشقه الحقيقي للفن ورغبته في العطاء المستمر. إرثه الفني يمثل جزءاً لا يتجزأ من تاريخ الفن المصري والعربي، حيث أثرى المكتبة السينمائية والتلفزيونية والمسرحية بأعمال فنية متنوعة ومتميزة. يظل عمر الحريري رمزاً للفنان الشامل الذي جمع بين خفة الظل والجدية، والكوميديا والتراجيديا، ليقدم لنا لوحة فنية متكاملة تستحق الإشادة والتقدير. ستبقى ذكراه حية في قلوب محبيه وكل من استمتع بأعماله الفنية الرائعة.

الدليل نيوز عشان البلد والناس

لتبقى على اطلاع دائم بآخر المستجدات والتطورات في جميع المجالات، ندعوك للانضمام إلى مجتمعنا.

تواصل معنا عبر منصاتنا:

استكشف أقسامنا الرئيسية:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights