عباس بن فرناس هو أول رائد فضاء في التاريخ
عباس بن فرناس هو أول رائد فضاء في التاريخ
كانت مباحث أولاد موسى، وثابت بن منصور، والخوارزمي، والبتاني، ويحيى بن منصور، بداية لتطور علم الفضاء عند المسلمين. ثم شد من أزر هذه الطائفة من علماء المسلمين جهد علماء الفلك المسلمين، بدراساتهم العميقة في “علم الفلك”. وفي أفياء الحضارة الإسلامية نهض علماء أفذاذ إلى إجراء التجارب في عالم الطيران، وهذه البدايات كانت المحاولات الرائدة في ارتياد عالم الفضاء.
ومن هؤلاء الرواد الأوائل الذين تدين لجهودهم العلمية حضارة اليوم بالفضل، عالم مسلم فذ هو “عباس بن فرناس”، حيث عالج فنونًا من شتى أبواب المعرفة، واشتغل في صناعات مختلفة حتى عرف بـ”حكيم الأندلس”، والحكمة تطلق عند المسلمين على الاشتغال بصنعة الكيمياء والطب.
إنه العالم الموسوعة الذي يجب أن يذكره القاصي والداني بما هو أهله، فهو حكيم الأندلس كما قال ابن حيان القرطبي، وذلك لاشتغاله بالفلسفة واهتمامه بأدواتها وإبداعه في موضوعات الفلسفة اليونانية والإسلامية، حيث أتقن اللغة اليونانية فترجم عنها إلى اللغة العربية الكثير من الكتب اليونانية، مما ترك أثرًا كبيرًا في الحياة الفكرية. وأبدع عباس بن فرناس في فنون التعاليم القديمة والحديثة وتتبع أصولها وإشاعة مفاهيمها. وهناك ذكر كثير في المخطوطات الأندلسية عن أنشطة عباس بن فرناس في جوانب الحكمة والفلسفة والرياضيات والطب، بجانب علم الفلك الذي برع فيه والكيمياء والهندسة والعمارة.
من هو عباس ابن فرناس؟
هو أبو القاسم عباس بن فرناس بن ورداس التاكرتي الأندلسي القرطبي، المخترع الأندلسي والفيلسوف الشاعر، تربى في مدينة العلم والعلماء (برابرة تاكرتا) بقرطبة، ولم يذكر المؤرخون تاريخ ولادته إلا أنه عاش في القرنين الثاني والثالث الهجريين. عاصر الخليفة الأموي الحكم الأول وعبد الرحمن الثاني ومحمدًا الأول في القرن التاسع للميلاد، وأصبح شاعر بلاط الأمويين في إمارة قرطبة. وهو شخصية مسلمة فذة اهتم بالرياضيات والفلك والفيزياء واشتهر بمحاولته للطيران، إذ هو أول طيار في التاريخ. وقد أجمع المحققون من المؤرخين على أنه توفي عام (887م)، وأجمعوا كذلك أنه عَمّر (80) حولاً.
نشأ ابن فرناس وتعلم في قرطبة (منارة العلم وبلد الصناعات) التي قصدها العرب والعجم لتلقي جميع أنواع العلوم في ذلك العصر، فتعلم القرآن الكريم ومبادئ الشرع الحنيف في كتاتيب “تاكرتا”، ثم التحق بمسجد قرطبة الكبير ليتضلع وينهل من معارفه، ثم خاض غمار المناظرات والمناقشات والندوات والخطب والمحاورات والمجادلات في شتى فنون الشعر والأدب واللغة، ولتوقد ذهنه كان أدباء الأندلس وشعراؤها وعلماء اللغة يجلسون حول عباس بن فرناس -الذي اشتغل بعلم النحو وقواعد الإعراب- يعلمهم اللغة ويفك الغامض من العلوم؛ كعلم البديع والبيان وعلوم البلاغة واللغة، كما كان ابن فرناس شاعرًا مجيدًا، ومتصرفًا في ضروب الإعراب، وكان مبرزًا في علوم الفلك، ماهرًا في الطب، مخترعًا في مختلف الصنع، عالمًا بالرياضيات، عبقريًّا في علم الكيمياء.
كان يحسن الإفادة من ربط العلوم ببعضها، ويحسن الاستفادة والإفادة من جمعه بين تلك العلوم. فمثلاً كانت دراسته للكيمياء أكبر مساعد له -بعد الله- على دقته في صناعة الزجاج وعلى التمرس في الصيدلة والطب وعلى التحليق في السماء. وقد اهتدي فيما نعلمه في أمور خفيت على من سبقه من العلماء، وحسْبه ما قاله المعجبون به من أهل زمانه ومن جاء بعدهم بأنه: “من أبرز المبرزين، متفوق على أقرانه في علم الطبيعة والهيئة والرياضيات والطب والصيدلة والكيمياء والهندسة والصناعات وكل المعارف الدقيقة والآداب الرفيعة، وكان رائد محاولة تطبيق العلم على العمل، ولهذا استحق لقب حكيم الأندلس”.
ابن فرناس طبيب وصيدلي
درس عباس بن فرناس الطب والصيدلة وأحسن الإفادة منهما، فقد عمد إلى قراءة خصائص الأمراض وأعراضها وتشخيصها، واهتم بطرق الوقاية من الأمراض عملاً بقولهم: “درهم وقاية خير من قنطار علاج”، ثم قام بدراسة وتجارب علاج من أصيب بالأمراض على مختلف أنواعها ثم أجرى الدواء.
كما درس خصائص الأحجار والأعشاب والنباتات ووقف على خواصها المفيدة في المعالجة. وكان في سبيل ذلك يقصد المتطببين والصيادلة ويناقشهم فيما بدا له من اطلاعه في هذه الصنعة الجليلة التي تحفظ البدن وتقيه من آفات الأدواء والأعراض. وقد اتخذه أمراء بني أمية في الأندلس طبيبًا خاصًّا لقصورهم، حيث انتخب من مجموعات من الأطباء المهرة، لشهرته وحكمته وأسلوبه الجاذب عند إرشاداته الطبية الخاصة بالوقاية من الأمراض، وإشرافه على طعام الأُسر الحاكمة لإحراز السلامة من الأسقام والأمراض، فلا يحتاج إلى المداواة إلا نادراً، فإذا حصل ما يكرهون من المرض دلهم على أنجع الطرق في المداواة… ولم يكن ابن فرناس يقنع بكل ما كتبه الناس من نظريات، بل ألزم نفسه إلقاء التجارب ليتحقق من صحة كل نظرية درسها أو نقلها من غيره ليرقى بها إلى مرتبة الحقيقة العلمية أو ينقضها، وقد شجب القبول والقناعة بالأمور الظاهرة المبسطة المقدور على النظر والبحث فيها. كان ابن فرناس يغوص في تحقيق ما علم وكان يطبق النظريات العلمية على منهج علمي في كل العلوم؛ وأهمها الطب والصيدلة وخاصة دراسة الأعشاب.
آثاره واختراعاته العلمية
الميقاتة: كان أول من صنع الميقاتة لمعرفة الأوقات كما جاء في الأعلام.
المنقالة: اشتهر ابن فرناس بصناعة الآلات الهندسية مثل المنقالة (آلة لحساب الزمن)، ونرى نموذج ذلك بالمسجد الكبير بمدينة طنجة، كما اشتهر بصناعة الآلات العلمية الدقيقة.
ذات الحلق: اخترع آلة صنعها بنفسه لأول مرة تشبه الإسطرلاب في رصدها للشمس والقمر والنجوم والكواكب وأفلاكها ومداراتها ترصد حركاتها ومطالعها ومنازلها والتي عرفت بـ”ذات الحلق”.
القبة السماوية: ابن فرناس هو المخترع الأول للقبة السماوية، وكان الناس يقصدون منزله لمشاهدة ما اتخذه من رسم جميل بديع في منزله. فقد مثل هيئة السماء بنجومها وغيومها وبروقها ورعودها والشمس والقمر والكواكب ومداراتها.
اختراع الزجاج من الحجارة والرمل: أجمع المؤرخون أن عباس بن فرناس كان أول من استنبط في الأندلس صناعة الزجاج من الحجارة والرمل.
الطيران واختراق الأجواء
قام عباس بن فرناس بتجارب كثيرة، درس خلالها ثقل الأجسام ومقاومة الهواء لها، وتأثير ضغط الهواء فيها إذا ما حلقت في الفضاء، وكان له خير معين على هذا الدرس تبحره في العلوم الطبيعية والرياضة والكيمياء؛ فاطلع على خواص الأجسام، واتفق لديه من المعلومات ما حمله على أن يجرب الطيران الحقيقي بنفسه، فكسا نفسه بالريش الذي اتخذه من سرقي الحرير (شقق الحرير الأبيض) لمتانته وقوته، وهو يتناسب مع ثقل جسمه، وصنع له جناحين من الحرير أيضًا يحملان جسمه إذا ما حركهما في الفضاء، وبعد أن تم له كل ما يحتاج إليه هذا العمل الخطير، وتأكد من أن باستطاعته إذا ما حرك هذين الجناحين فإنهما سيحملانه ليطير في الجو -كما تطير الطيور- ويسهل عليه التنقل بهما كيفما يشاء.
بعد أن أعد العدة أعلن على الملأ أنه يريد أن يطير في الفضاء، وأن طيرانه سيكون من “الرصافة” في ظاهر مدينة قرطبة. فاجتمع الناس هناك لمشاهدة هذا العمل الفريد والطائر الآدمي الذي سيحلق في فضاء قرطبة… صعد أبو القاسم بآلته الحريرية فوق مرتفع، وحرك جناحيه وقفز في الجو، وطار في الفضاء مسافة بعيدة عن المحل الذي انطلق منه والناس ينظرون إليه بدهشة وإعجاب، وعندما هم بالهبوط إلى الأرض تأذى في ظهره.
ولتفسير أبعاد هذه التجربة العلمية الفذة، نجد أن ابن فرناس بناها على دراسة فائقة في الفيزياء والفلك. وفي العصر الحديث، نتذكر أمر الطائرات الشراعية واتخاذ مظلات الهبوط من الحرير. كما أن محاولة ابن فرناس هذه تعدّ بداية الطريق لولوج عالم الفضاء.
وخلاصة النظرية العلمية للطيران عند ابن فرناس، أن الجسم وما يحمله لابد أن يكون خفيفًا للتغلب على الجاذبية الأرضية. فعندما يلقي بنفسه مندفعًا للأمام من شاهق، فسيحمله الهواء على متنه، وهذه النظرية يقوم بتقليدها وتطبيقها اليوم الكثير من هواة الطيران، فيما هو معروف بالطيران الشراعي المجنح الخفيف. ويمارس هذا الطيران على نطاق واسع ومن فوق أماكن مرتفعة وفق نظرية ابن فرناس نفسها، مع إجراء تعديل طفيف عليها بتركيب الذيل للآلة الحديثة.
وقد يكون هناك خلط بين الرواة والمحققين بين ما حدث لابن فرناس وما حدث للجوهري الذي قام بتجربة مماثلة لتجربة ابن فرناس في نيسابور سنة (1003م)، حيث صنع جناحين من خشب وربطهما بحبل حول جسمه على هيئة شراع، وصعد سطح مسجد بلده، وحاول الطيران أمام حشد من أبناء مصره، ونجح في الطيران بها بشكل باهر، إلا أن النجاح لم يستمر ولم يحالفه الحظ بسبب الإعياء فسقط شهيد العلم.
اعتراف غربي بسبق ابن فرناس
ظهرت أول دراسة حديثة حول اكتشاف أول محاولة للطيران في أوروبا، من خلال بحث علمي كتبه أستاذ التاريخ الأمريكي “لين هوايت”، وتم نشره في مجلة التكنولوجيا والثقافة (المجلد:2-العدد:2) عام (1960م)؛ حيث أشار فيه إلى أن أول رائد للطيران في أوروبا هو “إيلمر مالمسبري” الذي كان راهبًا في دير “مالمسبري” بإنجلترا، وقد قام بمحاولته المبكرة للطيران في بدايات القرن الحادي عشر الميلادي، إذ -كما يقول هوايت- إن “إيلمر” صنع لنفسه أجنحة من الريش، ربطهما بذراعيه وساقيه وطار بها بنجاح لمسافة محدودة، لكنه سقط على الأرض وأصيب بكسر في ساقيه وكان ذلك حوالي عام (1010م).
ويعقب “هوايت” على هذه المحاولة قائلاً: “إنه ليس من المحتمل أن يكون إلهام “إيلمر” قد أتاه من “سوتيونيوس” الذي يصف السقوط القاتل لممثلٍ مسرحي أخذ دور “إيكاروس” في سلسلة من مسرحيات قصيرة مثيولوجية (خرافية) يلبس فيها الممثلون أقنعة كانت قد مُثِّلت أمام “نيرون” في العصر الروماني. وليس من المحتمل كذلك أن يكون إلهام “إيلمر” في الطيران قد جاءه من الأسطورة اليونانية الخرافية حول طيران “ديدالوس” وابنه “إيكاروس”؛ حيث إن هذه الأخيرة لم تكن سوى مجرد حكاية خيالية خرافية لا صلة لها بأية وقائع علمية تاريخية. وإنما الجدير بالذكر في هذا الشأن، هو ضرورة تتبع المحاولات العلمية التجريبية الشهيرة في التاريخ الحضاري قبل “إيلمر”، والتي يمكن حصرها في أضخم وأجرأ تجربة علمية للطيران هي تجربة ابن فرناس؛ إذ لم تشبها أية شائبة من خرافة أو خيال، وإنما تتصف بالمنهاجية العلمية بكل المقاييس. وبالإضافة لذلك، فإن تجربة ابن فرناس، قد صار تطبيقها وفق نظريتين علميتين وضعها العالم المسلم الشهير، مازال يؤخذ بهما إلى هذا اليوم في مجال الطيران”.
ومما لا شك فيه أن تجربة ابن فرناس في الطيران، قد كانت المصدر الوحيد للأوربيين منذ القرن الحادي عشر الميلادي. فمن غير المشكوك فيه أن يكون رائد الطيران الأوربي “إيلمر” ومن جاء بعده، قد قرأوا عن تجربة ابن فرناس واتخذوا منها مصدرًا لاستلهام فكرة الطيران في أوروبا، وهو ما يؤكده الدكتور “هوايت” كاتب البحث المذكور حول اكتشاف أول رحلة للطيران في أوروبا.
ولكن ما يؤسف عليه أن كُتّاب الموسوعات الحديثة عن الإنجازات العلمية إذا تعرضوا لتاريخ الطيران، ينصفون “أرفيل رايت” (1877-1923م) وأخاه “يلبور” (1867-1912م) في موسوعاتهم، لكنهم ينسون أو يتناسون منزلة المخترع المسلم عباس بن فرناس التي احتلها في التاريخ. إن عباس بن فرناس قد سبق عباقرة القرن العشرين بأكثر من عشرة قرون، علمًا أن الاختراعات في ذلك العصر تعد من عجائب الدهر. إن اختراعاته المدهشة وتجاربه المذهلة تعد من مفاخر المسلمين ومآثرهم. لقد كان صاحب مغامرات نادرة، فقد طار وحلق في الهواء كما تطير الطيور.
ورغم ذلك فإن ابن فرناس هو أول رائد فضاء في التاريخ، وله يعود الفضل الكبير في تقدم علوم الفضاء التي أخذت تتطور طيلة ثمانية قرون، حتى تمكن الأخوان “أرفيل” و”ويلبور رايت” من الطيران بواسطة الطيران الآلي في (1903م).
إلا أنه كان أول من حفر النفق وأفسح مكانًا لأول ضوء قاد من جاءوا بعده وأغلبهم من الأوروبيين، نحو اختراع هام في تاريخ الطيران والبشرية.