دنيا ودين

من هو المسلم؟ وما هى رسالته؟

 

كتب : الأستاذ الدكتور كارم السيد غنيم

أستاذ بكلية العلوم جامعة الأزهر وعضو اتحاد كُتّـاب مصر

الموجز:

نتناول في اللقاء الحالي تعريف “المسلم”، وتعريف “الإسلام” عموما وتعريفه بعد بعثة رسول الله وخاتم الأنبياء محمد ، والإسلام والإيمان عند جمعهما في التدليل على الإسلام يعنيان الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، على التوالي… والإيمان، إذن، هو درجة أرقى من مجرد الإسلام الظاهري أو الشكلي، لأنه اعتقاد صادق يصحبه تطبيق والتزام كامل بكل ما قررته الشريعة الغرّاء، من عبادات وقوانين وأخلاق ومفاهيم وتعاليم… وعليه، فإن المسلم إما أن يكون مسلما ظاهريا، أو مسلما مؤمنا، فالأول هو الذي شهد الشهادتين (لا إله إلا الله ، محمد رسول الله)، حتى وإن لم تستقر معاني الإسلام في نفسه، ولم تؤثر قيم الإسلام في سلوكه، وهذه الفئة من المسلمين خطر على المجتمع، لأن الشكل الظاهري فقط لا يؤهّل المسلم للانضواء الصادق تحت لواء الإيمان، وأما المسلم المؤمن فهو الذي يعتنق الإسلام ويتحقق بما جاء به من قيم ومبادئ، وهو الإنسان الفعّــال غير الخـامل، صانع التاريخ… والآن ندخل في التفاصيل…

 

“المسلم” لغةً هو من أذعن وانقاد لربّه وخالقه جلّ جلاله، والإسلام هو خضوع جميع المخلوقــات لهغ سبحانه، وبالتالي فهو بمعناه الشامل تندرج تحته كافة الرسالات السماوية، وأتى به جميع الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم أجمعين، لقول الله تعالى: أفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ(83) [سورة آل عمران]. وهكذا يكون الإسلام في مفهومه العام: إخلاص العبادة لله تعالى والاستسلام لأوامره ونواهيه، والالتزام بمنهجه، وإن تنوعت الشرائع، كما أوضح هذا حديث رسول الله : (نحن معشر الأنبياء أولاد علاّت، ديننا واحد).

أما الإسلام بعد بعثة رسول الله وخاتم الأنبياء محمد ، فأصبح علما على شريعته، وأهلا لمعتنقيه، ولا يسع أحد بعد هذه البعثة المحمدية أن يخــرج عن دين الإسلام. يقول الله تعالى: فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) [سورة آل عمران]، ويقول تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) [سورة آل عمران]… وقد أوضح رسول الله مفهوم الدين الإسلامي في أحاديث شريفة عديدة، منها حديث جبريل المشهور، بقوله : (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا). وهناك أحاديث نبوية تجمع بين الإسلام والإيمان، كقوله : (… أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسُله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه)… والإسلام والإيمان عند جمعهما في التدليل على الإسلام يعنيان الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، على التوالي…

 

المسلم صنفان:

المسلم إما أن يكون مسلما ظاهريا، أو مسلما مؤمنا، فالمسلم “الظاهري” هو الذي شهد الشهادتين (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، حتى وإن لم تستقر معاني الإسلام في نفسه، ولم تؤثر قيم الإسلام في سلوكه، ولم يتفاعل مع أنماط الحياة المختلفة وفق الشرع الحنيف… وهذه الفئة من المسلمين خطر على المجتمع ومعاول هدم في الأمة، لأن الشكل الظاهري فقط لا يؤهّل المسلم للانضواء الصادق تحت لواء الإيمان، ولا يمكّنه من درجة الإسلام بمعناه الواقعي المستهدف من شريعة الإسلام، كما جــاء بها رســول الله محمد بن عبدالله . وتندرج في هذه الفئة أنماط من الناس، أشهرها: المنافقون والفاسقون – أعاذنا الله من شرورهم جميعا…

وأما المسلم “المؤمن” فهو الشخص الذي يعتنق الإسلام ويتحقق بما جاء به من مبادئ ومفاهيم وعبادات وقيم وتعاليم وأخلاق. فالإيمان، إذن، هو درجة أرقى من مجرد الإسلام الظاهري (أو الشكلي)، لأنه اعتقاد صادق يصحبه تطبيق والتزام كامل بكل ما قررته الشريعة الغرّاء… وقد استنكر الله تعالى على من يدّعون الإيمان وإسلامهم لا يزال إسلاما ظاهريا، فقال في محكم التنزيل: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{14} [سورة الحجرات]. كما وردت آيات عديدة تحدد صفات المؤمنين، منها – على سبيل المثال- قول الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ{15} [سورة الحجرات]… وإضافة إلى هذا، فإن المســلم “المؤمن” هو الإنسان الفعّــال غير الخـامل، النشـط غير الكسول، صانع التاريخ، وقد كان رسول الله هو الأنموذج الأمثل للإنسان المسلم المؤمن الفعّال، وسيرته بكل مراحلها تشهد بذلك، فكم تحمّل من المشاق والإيذاء، وكم لاقى من العنت والعناد، وكم واجه من الأحقاد والعداوات، ولم يثنه كل هذا وذاك عن تبليغ الرسالة وأداء الأمانة وهداية البشر، وإخراجهم من الظلمات إلى النور…

 

فاعلية المسلم:

القرآن الكريم زاخر بالآيات التي تؤكد الفاعلية التي يستحيل بدونها تفعيل الطاقات وتوظيف الإمكانات، وقد وردت الآيات لتربي الأمة الإسلامية على هذا المنهج الحياتي… فمريم عليها السلام بالرغم من آلام المخاض التي كادت تعصف بها، وبالرغم من الجوع القاسي الذي كانت تعانيه بعد وضعها لعيسى ، جاءها الأمر الإلهي بأن تفعل لتحصل، فقال الله تعالى: فأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً )23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً (25) [سورة مريم]، أمرٌ منه سبحانه باستفراغ الطاقة والوسع في الأخذ بالأسباب، وهو ما يربينا عليه الإسلام … ثم هناك “الهدهد”، الذي لم يكتف بما اطلع عليه، وأبلغ به سليمان ، ولكنه انطلق مبلغا وشارحا، وكم كان يشغله شرك العباد بخالقهم: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ{23} وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ{24} أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ{25} اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ{26} [سورة النمل]…. وهناك “النملة” التي لم تقعد لتندب حظها وقومها عندما استشعرت الخطر بقدوم سليمان وجنوده نحو مساكنهم، ولكنها اتخذت الأسباب للحماية من الهلاك، فأمرت أفراد قومها فقالت ـ كما ورد عنها ذلك في الكتاب العزيز: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ{18} [سورة النمل]… وهذا رسول الله ، لم يقعد عن العمل والفاعلية، بل بذل كل ما في وسعه، وقد أمره الله تعالى فقال: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2)[سورة المدثر]… وبالجملة، فإن العمل والحركة والفاعلية ألفاظ عبّرت عنها الآية القرآنية الكريمة في قول الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ{69} [سورة العنكبوت]…

 

ماذا يعـني انتمـائي للأمة الإسلامية:

يقول الله تعالى في كتابه العزيز: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ{92}[سورة الأنبياء]، ويقول تعالى: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ{52}[سورة المؤمنون]… فالأمة، إذن، واحدة، والربّ واحد هو الله ، وهو الذي له العبادة وإليه التوجّه والخضوع والانقياد… وهذه الأمة هى التي دعا الله في كتابه العزيز إلى الحفاظ على تماسكها فقال: واعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ …{103}[سورة آل عمران]، وحبل الله هو الحبل الجمعي، كما قال عبدالله بن مسعود ، ونقله عنه الطبري (في تفسيره “جامع البيان”). وكم هى الأحاديث النبوية الداعية إلى تحقيق الشعور الجمعي في نفس المسلم، والداعية بالتالي إلى وحدة الأمة كأنها جسد واحد، والشعوب كلها أعضاء في هذا الجسد، فقال رسول الله : (عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليزم الجماعة، من سرّته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن) رواه الترمذي. كما روى الترمذي قول رسول الله : (إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار)… إلى غير هذا وذاك من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تدفع المسلم دفعا نحو الاندماج في أمة التوحيد، الأمة الإسلامية، خير أمة أخرجت للناس…

وجاءت التعاليم والتشريعات الإسلامية العملية بوسائل فعالة لتحقيق هذا الهدف، فالصلاة هى الشعيرة الأولى، وهى الأهم بين الشعائر الأخرى، فُرضت على المسلمين لأغراض، منها تنمية الروح الجماعية فيما بينهم، فرغّب القرآن والسنّة في أدائها في جماعة، بنظام رائع، فاق جميع النظم التي عرفتها البشرية، من إخلاص النية، ونبذ الحقد والحسد والبغضاء، وغيرها من الأخلاق الذميمة، والاصطفاف في صفوف، ومتابعة الإمام في حركات هذه الفريضة وسكناتها… وإذا ضاق وقت المسلم عن مداومة الصلاة اليومية في جماعة، فلابد أن يؤدي الصلوات الجامعة في جماعة، كصلاة الجمعة، وصلاة العيدين… وهناك الكثير من أنماط الشعور الجمعي في الصيام والزكاة والحج، ما يضيق الوقت الآن عن سردها… وإضافة إلى الفرائض والشعائر العبادية المعروفة، دعى الإسلام، بأصليْه القرآن والسنّة، إلى مجموعة كبيرة من الأخلاق الاجتماعية، كالتضحية والإيثار وحسن المخالطة والجوار، وتنمية الروح الجماعية في المجتمع المسلم، بل وفي الأمة الإسلامية…

وهكذا، لا يكتمل إيمان المسلم إلاّ بالاهتمام بمن حوله، وبمن يحيط به، أو يعيش معه، بدءً بأسرته، ومرورا بمجتمعه، ووصولا إلى أمته المنتشرة في أنحاء المعمورة… ولدينا حديث نبوي يقول رسول الله فيه: (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)، وفي رواية : (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لم يصبح ويمسي ناصحا لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس منهم)… وإذا كان أهل الاختصاص بالحديث النبوي قد ذهبوا إلى أن هذا الحديث غير صحيح، أيْ لم يصح وروده عن رسول الله ، وعرضوا العديد من البدائل له، وهى أحاديث صحيحة دافعة إلى اهتمام المسلم بمجتمعه وبأمته، كقول رسول الله : (لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه)، وقوله : (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) رواه الشيخان… كما أن هناك العديد من الآيات التي تحــث على تحقيق الشـعور الجـمعي في نفس المسلم، مثل قول الله تعالى: … وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ{2}[سورة المائدة]، وقوله تعالى: وَالْعَصْرِ{1} إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ{2} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ{3}[سورة العصر]… وسواء كان هذا القول العظيم (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) حديث نبوي صحيح، أم هو قول مأثور، فإنه على أعلى درجة من الأهمية في تواصل أفراد الأمة بعضهم بالبعض، وهو من أهم الأقوال الدافعة إلى شعور المسلمين بالتجانس فيما بينهم، والتعاون معا في حلّ مشكلاتهم، وإعانة كل منهم للآخر…

وللأسف، فإن كثيرا من معاهدنا العلمية ومؤسساتنا التعليمية لا تدرّس ما يزرع هذا الشعور في نفوس شباب الأمة… يقول الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله (في كتابه “علل وأدوية”. نشر دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، 1998م): إن دراسة أيّ شعب إسلامي أمر إسلامي واجب… فالمسلمون أمة واحدة، غير أنني أتممت دراستي الأزهرية، التي استغرقت (15) عاما، دون أن أدرس حرفا واحدا عن الاستعمار الهولندي لإندونيسيا، ولا الإسباني لجزر سولدومندناو (والتي سُميت فيما بعد الفليبين)، ولا عن مسلمي جنوب شرق آسيا وشمال أفريقيا وغربها… لم نعرف كيف استعمر الفرنسيون الهند الهلينية، ولا ما حدث للمسلمين في فطاني والملايو وسنغافورة، وما يقال مثله عن جهلنا المطبق بمسلمي تركستان الهيلينية والروسية، وبقية الشعوب المسلمة التي ابتلعها التنين الروسي، أما القارة السوداء، والإسلام هو الدين الأول في أقطارها، فالموقف أدهى وأمرّ في أقطارها، وقد أُنشئت فيها – اليوم – خمسون دولة… ويضيف الشيخ الغزالي – رحمه الله – في مرارة أشد: لقد تبين لي أن دراستنا للتاريخ الإسلامي ضحلة، وأن دراستنا للتاريخ الإنساني فوق الصفر، كيف هذا؟! إن رسالة محمد للقارات كلها، فكيف نجهل هذه القارات، ولا نعرف ما يعمرها من أجناس ومذاهب وفلسفات؟ ولماذا نلوك بألسنتنا أن رسالتنا عالمية دون أدنى اتصال بهذا العالم الرحب؟!.

الهزيمة النفســـية ومخاطرها:

الهزيمة النفسية آفة خطيرة، وحين تصيب المرء فإنه يضيع بحسب شدّتها في كيانه، وتنمحي شخصيته مع ظهور أعراضها عليه، فلابد إذن أن يكون المرء على علم بأسبابها وأعراضها وسُبل علاجها… والهزيمة النفسية ـ باختصار ـ هى استحقار الإنسان لنفسه واستصغاره لقدراته وانكساره أمام العقبات التي تواجهه، أو تجاه الأعداء المتربصين به، وهى أيضا الشعور بالوضاعة والقزمية وعدم الأهلية لتحمل التبعات أو النهوض بالمسئوليات، كَبُرَ حجمها أم صغر…

الهزيمة النفسية على مستوى الفرد: هناك أسباب عديدة، تربوية وثقافية واجتماعية… إلخ، تسبب الهزيمة النفسية للإنسان، منها – على سبيل المثال – حرمان المرء من التربية في الصغر على الثقة بالنفس، واحترام نفسه، ومعرفة قدراته وتنميتها، وتدريبه على تحمل المشاق وحلّ المشكلات وتخطي الصعاب… ومنها تعرّض المرء في الصغر – أيضا – لدوام اللوم والتأنيب والتحقير والوصف بالفشل. ومنها صحبة المنهزمين نفسيا، لأن “الصاحب ساحب” – كما يقولون، فصحبة أصحاب الهمم العالية يورث المرء همة عالية، وصحبة المنهزمين أو أهل السوء يورث المرء بعض أو كلّ صفاتهم… ومنها التعلق بمتاع الدنيا واللهث من أجل تحقيق متع فانية، وحبّ الشهوات على اختلاف أنواعها (شهوة المال، شهوة الجنس، شهوة البنين، شهوة الشهرة، شهوة الرياسة، … إلخ)، وهذه أسباب شيطانية تؤثر في المرء، وتسبب له هزيمة نفسية… ومن أسباب الهزيمة النفسية، أيضا، عدم الثقة بالله، وعدم اليقين في أن العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين، وعدم التصديق بوعد الله بنصر المؤمنين بعد أن ينتصروا على أنفسهم، وبعد أن يأخذوا بأسباب العزّة…

الهزيمة النفسية على مستوى المجتمع والأمة: إن من أخطر ما يهدد السلام النفسي، ويقضي على مقدرة النفس وقدراتها، ويقيض إمكاناتها، إنما هو استسلامها للإحباط والهزيمة الداخلية، وشعورها بأن شيئا ما فسد ولا يمكن إصلاحه، ومن خطورة هذا الشعور القضاء على أيّ أمل للإصلاح، مع أن الأمل لا ينقطع ما بقيت الحياة… لقد مُنى المسلمون في العصر الحديث بهزائم عديدة ونكسات متنوعة، كان من أشدّها مرارة تحطيم الروح المعنوية، ورسوخ الهزيمة النفسية. ويتجلى مظهر هذه الهزيمة النفسية بوضوح عند البعض في الاعتقاد بحتمية السيطرة الأبدية للغرب (أو حتى للشرق الشيوعي)، والمراهنة على ديمومة انتصارهم في كل حرب يخوضونها، والاعتقاد الجازم بأنهم قوة لا تقهر. ولقد ساعد على ترسيخ هذه القناعة تلك الحملات الإعلامية المركزة التي وظفها الغرب بخبث ودهاء لخدمة أهدافه ومؤامراته، وأشاع من خلالها الرعب في القلوب والخوف في النفوس، وذلك من خلال استعراضه لقدراته العسكرية وإمكاناته العلمية وتفوقه التقني… وللأسف الشديد، فقد انهارت الروح المعنوية لدى ضعاف الإيمان، ووقعوا في الفخ الذي أراده العدو لهم، ولم يتوقف الأمر عند هذا ولكنه تعداه إلى ما هو أخطر بكثير، لقد تعدى الأمر إلى اعتقاد مخيف بأن مقاليد الأمور وتدبير العالم وإهلاك أمةٍ وإحياء أخرى، وإعزاز شعب وإذلال آخر، قد أصبحت بيد الغرب (الدكتور/ رياض بن محمد المسيميري: “الهزيمة النفسية”. شبكة نور الإسلام على الإنترنت، بتاريخ 16/8/1428هـ)… أما عدم انكسار المسلمين أو اندثار الأمة الإسلامية عقب إصابتها بهزائم أو نكسات، فالتاريخ الإسلامي زاخر بالأمثلة الدالة عليه، ولعلّ مثالا واحدا يكفي في هذه العجالة، وهو ما حدث في يوم أحُد (معركة أُحُد)، في عهد رسول الله ، وقد كتب الدكتور/ راغب السرجاني مقالة جيدة حلّل فيها الدروس المستفادة من هزيمة المسلمين في أحد، على المستوى الفردي، وعلى المستوى الجماعي، يمكن الرجوع إليها لمن أراد المزيد…

الإسلام يحضّ على الوقاية من الهزيمة النفسية والتخلص منها:

نهى الإسلام، بأصليْه القرآن والسنّة، عن اليأس والقنوط ، ودعى إلى الخروج من حالة الإحباط، على المستوى الفردي والمستوى الجماعي، على السواء، بل ووصف القرآن الكريم الذين ييأسون من رحمة الله بأنهم كافرون وبأنهم ضالون، ولعياذ بالله، فقال الله سبحانه في محكم التنزيل: يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ{87}[سورة يوسف]، وقال: وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ{56}[سورة الحجر]. والذين يقنطون من رحمة الله هم الضالون، لأنهم ضلوا عن طريق الله، ولم يشعروا برحمته، ولم يستشعروا رعايته وبرّه وإحسانه، وأما الذين يعمر الإيمان قلوبهم فإنهم حين يقعون في الشدائد أو تحيط بهم المصائب، فإنهم على ثقة برعاية الله لهم، وهم إلى الله يتوجّهون بتفويض الأمر، مع الامتثال لما أمر الله به ، أيضا، من اتخاذ الأسباب لإزالة أسباب ومظاهر المصيبة أو الشدّة… هذا، وكم كان رسول الله يستعيذ بالله من الكسل والعجز، في مثل قوله : (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من عذاب القبر) أخرجه البخاري في صحيحه. والكسل هو ترك الشئ مع القدرة على الأخذ في عمله، والعجز هو عدم القدرة. وشجّع رسول الله المؤمنين على الأخذ بأسباب القوة، بكل معانيها – مادية ومعنوية – فقال في حديثه الشريف : (المؤمن القوي خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلّ خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز…) أخرجه مسلم في صحيحه، وابن ماجه في سننه، وأحمد في مسنده.

وعلى مستوى الأمة، جاءت الآيات القرآنية لتوضّح أنماطا من صراع قوى الشرّ مع قوى الخير، وكيف انتصرت قوى الخير، وذلك حين تستيقظ من غفوتها، وتتخذ الوسائل الكفيلة بالنصر، ولعلّ الآية القرآنية التي يعرفها كثير من الناس، آية إعداد القوة، شاهد لذلك، فالله تعالى يقول: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ{60}[سورة الأنفال]، وجاءت لفظة “القوة” في الآية الكريمة نكرة، لتشمل جميع أنماط القوة المادية والمعنوية. وفي معركة بدر لم يكن العدد والكثرة سببا لنصر المؤمنين، بل كانت الأسباب عديدة، أبرزها بذل كل ما في الوسع لدفع الظلم، والاعتماد على الله بقلوب مخلصة إخلاصا محضا، ولذلك امتنّ الله على المؤمنين بأن نصرهم وهم قلّة، فقال في محكم التنزيل : … كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ{249}[سورة البقرة]، ولاحظ سبب من أسباب النصر في هذه الآية، وهو الصبر والاحتساب…

إن الأمة الإسلامية اليوم تعيش في حالة ضعف، وتمرّ بحقبة من التخلف والخور، بالرغم من أنها لم تعدم المفكرين والدعاة والعلماء، الذين يبحثون أسباب الهزيمة النفسية والمادية التي تعاني منها الأمة، ويطرحون استراتيجيات النهوض من هذه الكبوة الحضارية، ولكن الموضوع كبير، وتتشابك فيه أمور كثيرة، وله جوانب عديدة… إلاّ أننا على يقين بأن النصر للمؤمنين في النهاية، وعْدٌ من الله بالنصر على قوى الشر والطغيان مهما طال الأمد، ولذلك فإن هذه الأمة الشاهدة ستستعيد مجدها وشهودها على البشرية، مهما امتد ليل الهزيمة، ومهما عظمت المؤامرة، ومهما تكاثر الأعداء وتكالبوا… هذه الأمة التي ما إن يخطط أبناؤها الآن للنهوض، بإخلاص وتفكير جاد ووعي بكافة الظروف، ظروف المرحلة، وإفراغ ما في الوسع، فإنهم سينهضون ويقودون العالم مرة أخرى، يقول الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ{55}[سورة النور]. ووعد الله في آيات كريمة بنصر المؤمنين، الذين يتضلعون بأسباب النصر، ماديا ومعنويا، فقال: … وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ{40}[سورة الحج]، وقال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ{51}[سورة غافر]. وقال رسول الله : (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهو ظاهرين) رواه الشيخان في صحيحيهما، وقال : (لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرّهم خذلان من خذلهم حتى تقوم الساعة) أخرجه ابن حبان… اللهم اجعلنا من المسلمين الفاعلين، وجنبنا الهزيمة النفسية، وهيئ لنا أسباب الرفعة ومقومات النهوض من غفوتنا، ومكنا من قيادة العالم كما كان أسلافنا رضى الله عنه اهلب عنهم ورضوا عنه.

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights