منوعاتسلايدر

نصر أكتوبر… ملحمة خالدة ورسالة للأجيال

بقلم  ا.د/ ابراهيم حسينى درويش

السادس من اكتوبر هو يوم استعاد فيه الوطن روحه… ولذلك حين تأتي هذه الذكرى من كل عام، تهب علينا نسائم المجد، وتحضر إلى الذاكرة لحظة فارقة أعادت للوطن كرامته وللأمة العربية عزتها. لم يكن ذلك اليوم مجرد انتصار عسكري يكتب في سجلات التاريخ، بل كان ولادة جديدة لشعب تحدى المستحيل، وعبَر الهزيمة ليصنع المجد. كان يومًا التقت فيه صيحات الجنود “الله أكبر” مع دعوات الأمهات في البيوت، واجتمع فيه العرق على الجبهة مع الجهد في المصانع، فخرج النصر كالشمس الساطعة التي بددت غيوم الانكسار.

واليوم، ونحن نحتفل بمرور أعوام على هذه الملحمة، لا يليق بنا أن نكتفي بترديد القصص البطولية، بل علينا أن نستخلص منها العبرة، وأن نعي أن الحفاظ على النصر لا يكون إلا بالحفاظ على الوطن، وصيانة جبهته الداخلية، والعمل المتواصل على إعداد ما استطعنا من قوة، كما أمرنا الله في كتابه الكريم.

النصر الذي صنعته صيحة “الله أكبر”

لم يكن نصر أكتوبر وليد المصادفة أو صدفة عابرة، بل جاء نتيجة إيمان راسخ وتخطيط متقن وصبر طويل. لسنوات عاش الجنود المصريون على أمل استعادة الأرض، وكانت كل طلقة وكل مناورة وكل ساعة حراسة على الجبهة بمثابة لبنة في بناء النصر. وحين جاء اليوم الموعود، ارتفعت صيحات “الله أكبر” مع أول جندي يعبر القناة، لتصبح كلمة السر التي أرهبت العدو وزلزلت كيانه.

وقد صدق الله وعده في كتابه الكريم:﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7].
كان النصر إذن ثمرة للإيمان قبل أن يكون ثمرة للسلاح. ومن أروع ما قيل في ذلك شهادة أحد القادة الإسرائيليين: “لم نهزم أمام سلاح المصريين فقط، بل هزمنا أمام إيمانهم الذي كان أكبر من كل سلاح.”

الجبهة الداخلية… سر الصمود

إن أي معركة لا يمكن أن تُحسم في ميادين القتال وحدها، وإنما في صلابة الجبهة الداخلية ووحدة الشعب. ففي أكتوبر، لم يكن الجندي وحده هو المقاتل، بل كان الشعب كله جنديًا في معركة واحدة.
الفلاحون زرعوا أرضهم بإخلاص ليوفروا الغذاء للجيش، والعمال ضاعفوا جهدهم في المصانع ليمدوا الجبهة بالسلاح والذخيرة، والأمهات قدمن أبناءهن فداءً للوطن، والأطفال رددوا الأناشيد في المدارس، حتى غدت مصر كلها خلية نحل تسير نحو هدف واحد: استعادة الكرامة.
وقد علّمنا رسول الله ﷺ أن وحدة الأمة هي سر قوتها، فقال:”المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا.” [متفق عليه].
فإذا أردنا أن نحافظ على مكاسب أكتوبر، فعلينا أن نحمي جبهتنا الداخلية من أي تفكك، وأن نغلق الأبواب أمام الفتن والشائعات، فهي أخطر على الأوطان من السيوف والدبابات.

التنمية… معركة العصر الحديث

لقد تغيرت ساحات القتال، فلم تعد المعارك كلها بالبندقية والمدفع، بل أصبحت معركة اليوم هي معركة التنمية والبناء. قال تعالى:
﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 105].وهذا نداء إلهي يوجهنا إلى أن قيمة الإنسان ليست بما يقول فحسب، بل بما يعمل ويُنجز.

اليوم نخوض معركة جديدة ضد الفقر والجهل والتخلف، سلاحنا فيها العلم والإنتاج والإبداع. فالمصانع التي تُبنى، والمزارع التي تُستصلح، والمدارس التي تُشيّد، والمستشفيات التي تُجهز—كلها خطوط دفاع متقدمة تحمي الوطن من الانكسار. وإن الإعداد للقوة لا يقتصر على السلاح العسكري فقط، بل يشمل إعداد العقول بالعلم، وإعداد الأيدي بالمهارة، وإعداد القلوب بالإيمان.

عبر التاريخ… دروس باقية

التاريخ مدرسة كبرى تعلمنا أن الأمم التي تغفل عن إعداد القوة وتظن أن أمجاد الماضي تكفيها، سرعان ما تفقد مكانتها. حين وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخاطب الأمة، قال كلمته الشهيرة: “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.”
وفي غزوة بدر، لم يكن المسلمون سوى ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا في مواجهة جيش يفوقهم ثلاثة أضعاف، ومع ذلك كتب الله لهم النصر لأنهم صدقوا مع الله. وفي أكتوبر تكرر المشهد ذاته؛ جيش بإمكانات محدودة يواجه عدوًا مدججًا بالسلاح والدعم، لكنه امتلك سلاحًا لا يقهر: الإيمان بالله، والإصرار على استعادة الحق.

رسالة أكتوبر للأجيال الجديدة

إلى شباب مصر، الذين لم يشهدوا لحظة العبور ولكن يعيشون على ثمارها: اعلموا أن هذا النصر أمانة في أعناقكم، وأن المحافظة عليه لا تكون بالشعارات فقط، بل بالعمل الدؤوب وحب الوطن والإخلاص في الأداء. أنتم جيل المستقبل الذي عليه أن يواصل ملحمة البناء. لا تسمحوا للإحباط أن ينال من عزيمتكم، ولا للفتن أن تفرق بينكم. اجعلوا من نصر أكتوبر مدرسة تتعلمون منها أن المستحيل كلمة زائفة أمام عزيمة صادقة.
واعلموا أن الوطن لا يقوم إلا بأبنائه، وأن حب الوطن من الإيمان. قال رسول الله ﷺ وهو يخاطب مكة عند هجرته:”والله إنكِ لأحب بلاد الله إليَّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت.” [رواه الترمذي].فكيف لا نحب أوطاننا ونبذل في سبيلها الغالي والنفيس؟

درع الحاضر وسيف المستقبل

إن الاحتفال بنصر أكتوبر ليس مجرد ذكرى عاطفية نزين بها أيامنا، بل هو تجديد للعهد بأن نكون على مستوى المسؤولية. علينا أن ندرك أن التهديدات قد تتغير أشكالها، لكنها تظل قائمة. فكما حمى الآباء حدود الوطن بدمائهم، فإن علينا أن نحميه اليوم بعقولنا وسواعدنا.
إن قوة الجيوش لا تكفي إذا لم تسندها قوة اقتصادية متينة، وأمة متماسكة، وشباب واعٍ، وإيمان عميق بعدالة القضية. ولذا فإن معركتنا اليوم هي معركة بناء الإنسان المصري القوي، المتعلم، المؤمن، القادر على أن يصنع الغد كما صنع الأجداد الماضي.

ختاما

في السادس من أكتوبر تعلّمنا أن النصر ليس بعيدًا عن أمة تعقد العزم وتتوكل على الله، وأن التاريخ لا يكتب بالأمنيات، بل بالتضحيات والعمل والصبر. وإذا كنا اليوم نحتفل بذكرى النصر، فإن أمانة الأجداد بين أيدينا: أن نصون الوطن، وأن نحافظ على وحدته، وأن نعد ما استطعنا من قوة في كل مجال، حتى نردع كل من يفكر في النيل منه.

ونسأل الله في هذه المناسبة العظيمة أن يحفظ مصر وأهلها، وأن يديم عليها نعمة الأمن والأمان، وأن يجعلها دائمًا بلدًا آمنًا مطمئنًا سخاءً رخاءً، وأن يوفق أبناءها للعمل والبناء، وأن يسدد خطى جيشها ورجالها على طريق العزة والكرامة.

اللهم احفظ مصر وقيادتها وجيشها وشعبها من كل سوء، واجعلها دائمًا واحة أمن وسلام، وبارك في رجالها ونسائها، ووفقنا جميعًا لما تحب وترضى، إنك على كل شيء قدير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights