حضارة وتاريخ

رأي الشيخ محمد عبده في محمد علي باشا

«لغط الناس هذه الأيام في محمد علي، وماله من الآثار في مصر، والأفضال على أهلها، غير أنه لم يبحث باحث في حالة مصر التي وجدها عليها محمد علي، وما كانت تصير البلاد إليه لو بقيت.

 

ما الذي صنعه محمد علي؟ لم يستطع أن يُحيي ولكن استطاع أن يُميت. كان معظم قوة الجيش معه، وكان صاحب حيلة بمقتضى الفطرة، فأخذ يستعين بالجيش وبمن يستمليه من الأحزاب على إعدام كل رأس من خصومه، ثم يعود بقوة الجيش وبحزب آخر على من كان معه أولا، فيمحقه، وهكذا، ووجّه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة ، فلم يَدَع فيها رأسا يستقر فيه ضمير «أنا»!!

 

واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلا لجمع السلاح من الأهلين، وتكرر ذلك منه مرارا، حتى فسد بأس الأهلين وزالت ملكة الشجاعة فيهم.

 

فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة، من رأي و عزيمة واستقلال نفس، ليُصَيّر البلاد المصرية جميعها إقطاعا واحدا له ولأولاده، بعد أن كانت إقطاعات لأمراء عدة.

 

ماذا صنع بعد ذلك ؟ اشرأبت نفسه لأن يكون ملكا غير تابع للسلطان العثماني، فجعل من العُدة لذلك أن يستعين بالأجانب من الأوربيين، فأوسع لهم في المجاملة، وزاد لهم في الامتياز، حتى صار كل صعلوك منهم لا يملك قوت يومه ملكا من الملوك في بلادنا، وصغرت نفوس الأهالي بين أيدي الأجانب بقوة الحاكم، وتمتع الأجنبي بحقوق الوطني التي حُرم منها، وانقلب الوطني غريبا في داره.

 

نعم عني محمد علي بالطب؛ لأجل الجيش، وعنى بالهندسة، لأجل الري، ليستغل إقطاعه الكبير.

 

أرسل جماعة من طلاب العلم إلى أوروبا ليتعلموا فيها فهل أطلق لهم الحرية أن يبثوا في البلاد ما استفادوا؟ كلا! ولكنه اتخذهم آلات تصنع له ما يريد وليس لها إرادة فيما تصنع!

 

هل توجهت نفسه لوضع حكومة قانونية منظمة يقام بها الشرع ويستقر العدل؟ هل خطر في باله أن يجعل للأهالي رأيا في الحكومة، في عاصمة البلاد أو أمهات الأقاليم؟ بل كان رجال الحكومة إما من الأرنؤوط أو الجراكسة أو الأرمن المورلية.

 

هل علّم المصريين حب الجندية والافتخار بها؟ لا! بل علمهم الهرب منها بعد أن كانوا يحاربون لا يبالون بالموت. ليقل لنا أنصار الاستبداد كم كان في الجيش من المصريين الذين بلغوا إلى رتبة البكباشي؟ هل شعر مصري بعظمة أسطوله أو بقوة جيشه؟ هل خطر ببال أحد منهم أن يضيف ذلك إليه فيقول هذا جيشي وأسطولي؟ كلا! لم يكن شيء من ذلك، فقد كان المصري يعد ذلك الجيش وتلك القوة عونا لظلمه.

 

فما أثر ذلك في حياة المصريين؟ أثر كله شر، لذلك لم تلبث تلك القوة أن تهدمت واندثرت.

 

ظهر ذلك حينما جاء الإنجليز لإخماد ثورة عرابي، دخل الإنجليز مصر بأسهل ما يدخل دامر على قوم، ثم استقروا ولم توجد في البلاد نخوة في رأس تثبت لهم أن في البلاد من يحامي عن استقلالها، وهو ضد ما رأيناه عند دخول الفرنسيين إلى مصر، وبهذا رأينا الفرق بين الحياة الأولى والموت الأخير».

 

 

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights