مقالات

أكمل النشار يكتب .. قطرات مطر !

أكمل النشار يكتب .. قطرات مطر !

بالرغم من سقوط المطر بشدة فى هذه الليلة من ليالى الشتاء .. وخلت الشوارع من السالكين واغلقت المحلات .. واصبحت المدينة وكأنها تغتسل بعد تعب شديد طوال اليوم .. الا ان حرص جميع اصدقائها على الحضور اليها فى هذه الليلة ومشاركتها هذه اللحظات الهامه فى تاريخ حياتها .. حياتها التى تمر يوم بعد يوم .. فالليلة هى ليلة عيد ميلادها بداية سنة جديده من عمرها الذى لا تتذكر الان ماهو بدايتة بالظبط !  … ربما منذ خلق هذا المطر الذى ينساب على النوافذ بهدوء تاره .. وبقسوه تاره .. وينتهى الى لاشئ بعد ذلك ! فهكذا كان عمرها دائما .. لحظات شدة وقسوة .. لحظات حنان وهدوء … ولكنها فى النهاية تنتهى الى لا شئ !! .. وتنتهى الايام وتمر .. تماما مثلما تمر هذه القطرات …

وحرصت هى ايضا على الاحتفال بعيد ميلادها هذه السنة .. ولا تدرى حقا لماذا احبت سقوط المطر فى هذه الليلة وخواء  الشوارع والطرقات … ربما اشعرها هذا ان الناس جمعيهم بقوا فى منازلهم للاحتفال معها ايضا !  

حضر اصدقائها وقاموا بالصخب المعتاد فى حفلات اعياد الميلاد من غناء ورقص والقاء الدعابات وتقديم الهدايا .. وقاموا بكل مابوسعهم لجعل لحظاتها وليلتها سعيدة حقا  .. فهم حقا يحبونها حقيقة لا تصنعا … يحبون ان يروها سعيده وكفى .. حتى لو كان هذا يعنى مرور سنة اخرى من حياتها ربما تستدعى الحسرة عليها لا الاحتفال بها !! … ولكن لا يهم .. المهم ان يروها سعيدة ويسرقوا لحظات من السعادة التى ربما لا يرونها الا نادرا بقية ايام السنة !

وكم كانت شاردة الذهن بالرغم من كل هذا الضجيج والصخب والغناء من حولها .. وحاولت التظاهر بالسعادة من اجلهم ليس لشئ سوى انهم هنا من اجلها فقط ! …  وحاولت قدر الامكان الاستمتاع بهذه اللحظات معهم .. فظلت كفراشة حائرة تنتقل من هنا وهنا .. ترقص تارة وتصفق تارة .. وحين اطفأت شموعها تمنوا لها جميعا سنة جديده سعيدة والكلمات المعتاده من ” كل سنة وانت طيبة ” .. و ” عقبال مليون سنة ” التى تقال دوما فى كل اعياد الميلاد … وطلبوا منها ايضا ان تتمنى أمنية فى العام الجديد من عمرها .. فترردت لحظة ثم اغلقت عينيها ببطء .. وتمنت .. ولكن اسرت بها فى نفسها ولم تعلنها لاحد  .. وصمتت !

****
فهى بالرغم من ملامحها الطفولية البريئه وهدوؤها المعتاد وابتسامتها الجميلة التى لا تفارقها دوما .. الا انها كانت تحمل الاما وهموما .. تخيفها دائما بداخلها ولا تبوح بها لاحد .. ربما لانها كانت دوما تظن ان الافصاح بالهموم للغير .. ضعف وقلة حيله وتؤمن ان الاخر دوما لن يقدم اى شئ لها مهما استمع منها …  لذلك شعرت بعد ان تمنت امنيتها فى سرها ان تريد الانفراد بنفسها ولو قليلا .. فجلست  بجوار احدى النوافذ التى تتساقط عليها قطرات المطر … تتحسس أناملها المتشابكة فيما بينها نظراتها تتأمل في كل قطرة تسقط  …  شعرت بالقطرات تريد ان تقول لها .. تذكر الأمس ؟؟ و ما في الأمسِ من معنى و معنى ؟
يوم كان القلب طفلاً … برئ العينين .. برئ القلب ..
في الصباح يناجي العطر .. والمساء … يغفو .. يتمنى
يومها .. كانت حروف الحب قد تصنع كونا
لم يكن للشك أرض .. لا .. و لا للخوف معنى
لم يكن يشغل بال الناس .. حقد يتجنى
ليتنا دمنا صغاراً .. و بقينا حيث كنا !!


وكم اسعدها انه لم يتركها في ذلك اليوم فقد اتى ليرثي معها عام مضى بما فيه من ذكريات ويبارك عامها الجديد .. نعم .. فهي تعشق المطر بل انها تراه شبيهها وجزء منها بل والمكمل لها فهو بالنسبة لها مقيد في سماءه بانتظار الشتاء ليسامر الريح ويناجي كل عاشق فيطفئ نيرانه ويغسل عنه احزانه وينهمر مع دموعه في لحظات عشقه وجنونه وثورته ………
 
اة .. كم تتمنى لو تترك الجميع وتركض وحدها لتحتفل معه هو فقط  في صمت وتمارس طقوس الميلاد الجديد تحت قطراته الطاهرة …..
فينبعث من داخلها حلم وليد يصرخ في وجه هذا العالم القاسي ..
 
انحدرت من عينيها دمعه تفوقت في حرارتها على برودة الشتاء ..


فزاد انهمار المطر وعلا طرقه على الحاجز الزجاجي وكأنه يريد ان يحطمه ليتحد مع تلك الدمعة اللامعة على خدها فيطفئ لهيبها …  فهو يشعر بها ويعلم ما يحمله هذا اليوم من ذكريات …. فقد كان معها دوما في اهم لحظات حياتها .. ولكنه اليوم ليس هنا .. ليس معها .. خرجت من صدرها زفرة حارة وهي تذكر تلك الايام برغم مرور اعوام ثلاثه الا انها تراها وكأنها حدثت بالامس….


 وتذكرت مع قطرات المطر قصة حبها الاوحد فى حياتها … كان يعلم ان نهايته اقتربت وكم تمنى لو انه استطاع ان يشوه صورته لديها كي لاترتبط به اكثر فيصعب عليها فراقه ونسيانه … ولكن محاولاته كانت دوما تبوء بالفشل فيعود لها طفلا باكيا يرجو القرب من حضن امه لينهل من حنانها فتكون المعين له على قسوة ايامه الباقية ….. هكذا كان كلما حاول الابتعاد ازداد ارتباطه بها وتعلقه بها اكثر واكثر فاصبح هو ماؤها وهي هواءه لم يجرؤ يوما ان يصارحها بالحقيقه فقد كانت تختفي الامه بمجرد رؤيتها .. وبرغم حبها له وقلقها وخوفها عليه لم تستطع ان تكتشف تلك المعاناة التى كان يمر بها والتى كانت تزداد يوما بعد يوم .. كم عاتبت نفسها ولامتها لغفلتها وعدم اكتشافها هذا الامر الا بعد فوات الاوان …وهنا تذكرت كلماته التى ظل يرددها مع انفاسه المتلاحقه وهى تكحل عينيها برؤيته للمرة الاخيرة قبل ان يودعها ويفارقها للابد فقد اخذ عليها وعدا بأن تبدا من جديد ولا تتعثر في ذكريات مضت فقال لها :
 
“الحب حرية وارتحالات محيرة ! … فهو  كالنهر لا ينفد ابدا عند فقدان الحبيب بل يظل يرتحل .. ويعطى دائما وابدا ! “.


****
 
 
شعرت بيد تربت على كتفيها برفق  .. افاقت من ذكرياتها …  فإذا بزميلها ينظر لها بابتسامته المعهوده وبيده علبة صغيره من القطيفة الحمراء تذكرت انها ذات العلبه …  لقد ظل محتفظا بها من العام الماضي واستطرد قائلا لن امل انتظارك ..فارجو ان تقبلي مني هديتي المتواضعه أو احتفظ بها للعام القادم .. ابتسمت له وأخذتها ..ونظرت من نافذتها فإذا بالمطر يترفق بزجاج النافذه وكأنه اطمأن عليها وقرر ان يتركها بين يدي هذا الرجل فظلت عيناها معلقه بالنافذه ثم لم تلبث ان جذبته من يده واسرعت لتلحق بقطرات المطر قبل ان تتوقف ونظرت للسماء وجعلت المطر يتساقط على وجهها فشعرت وكأنها تولد من رحم … عالم  جديد ….!

ِِAKmal ELnashar

صحفي وكاتب مصري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights